تهفو قلوب المسلمين كل عام للحج إلى بيت الله الحرام، وزيارة الأماكن المقدسة، وتشتاق دوماً لزيارة المسجد النبوي الشريف، ولا شك أن الجهود التي تقوم بها المملكة للتيسير على حجاج الرحمن لأداء فريضة الحج، والتي لا تدخر جهداً في توفير كافة سبل الراحة، وتذليل الصعاب التي تواجه ضيوف الرحمن الذين يفدون إلى الأراضي المقدسة، والعمل على تحسين البيئة لأداء المناسك التي لم تتوقف يوماً، مع تقديم الخدمات الأمنية والصحية والغذائية إلى الحجاج، وحسن تنظيم هذه الحشود الكبيرة، لهو أمر يدعو إلى الفخر والاعتزاز والتقدير. ويأتي حج هذا العام في ظروف استثنائية فرضتها جائحة كورونا بتقدير من الله تعالى، مما استوجب على القيادة الرشيدة اتخاذ قرار تاريخي بقصره على عدد محدود جداً من مختلف الجنسيات الموجودة والمقيمة في المملكة. وقد لاقى هذا القرار استحساناً كبيراً من مختلف المؤسسات الدينية في دول العالم الإسلامي، فلم نجد فقيهاً أو عالماً اعترض على هذا القرار، أو حتى تحفظ عليه، بل أجمعوا عليه؛ لأن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح. هذا القرار الموفق الذي جاء للحفاظ على أرواح وسلامة المسلمين، فهناك ملايين المسلمين الذين يتوجهون إلى البقاع المقدسة من شتى أنحاء العالم، وكل هؤلاء الملايين يعودون مرة أخرى إلى بلادهم، وفي ظل انتشار هذا الوباء، وعدم انحساره حتى الآن، ما سيؤدي إلى مضرة ومفسدة كبيرة لا يعلم مداها إلا الله. إن مقصود الشرع من الخلق خمسة، وهو ما يعرف بالضروريات أو الكليات الخمس: أن يحفظ عليهم الدين والنفس والنسل والمال والعقل. فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوّت هذه الأصول الخمسة فهو مفسدة. إن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح بحسب الإمكان، وأن لا يفوت منها شيء، فإن أمكن تحصيلها كلها حُصِّلت، وإن تزاحمت ولم يمكن تحصيل بعضها إلا بتفويت البعض قدم أكملها وأهمها وأشدها طلبا للشارع. فما جاءت الشريعة إلا لتحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها فهي تحصل أعظم المصلحتين بفوات أدناهما وتدفع أعظم الفسادين باحتمال أدناهما. وهل وضعت الشريعة إلا لهذا؟ والقاعدة الفقهية فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد أو تزاحمت، أنه يجب ترجيح الراجح منها، فإن الأمر والنهي وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له؛ فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأموراً به، بل يكون محرمًا إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته. إن مواقف المملكة وحرصها الشديد على أمن واستقرار المشاعر، وعمارتها وسعيها الدؤوب للحفاظ على أرواح ضيوف الرحمن، أمرٌ أظهرُ وأبينُ من ضوء الشمس في رابعة النهار، ولهذا خصّها الله سبحانه وتعالى بالمشاعر والأماكن المقدسة دون غيرها من بلاد الدنيا، وجعلها بلاد الحرمين الشريفين.