قبل أيام قليلة وقع الرئيس الأميركي ترمب قرارا تاريخيا لا يمس التعليم فحسب، بل يمس الابتكار والإنتاج والمعرفة وكل مناحي التطور، وهذا القرار هو عدم وضع الاعتبار للشهادة في التقييم والقبول وحدها؛ بل المهارة أضحت قيمتها أكثر من الشهادة، والمهارة ليست قرينة معرفة ومقدرة فحسب، بل هي متلازمة للشغف والإرادة وحب التخصص والمهنة التي يرغب الدارس والمتعلم والعامل بعملها.. إن رؤية سريعة، وقراءة موجزة في سير المبتكرين عبر التاريخ، والمؤلفين وذوي النجاح في كل تخصصات المعرفة نجد أن نسبة عظمى منهم كانوا ليسوا من المتخصصين في المجالات التي أثّروا بها وأثروها غزارةً وعلمًا وابتكاراً بل هم مقتحمون لها وإن كانوا ليسوا من نتاج تخصصاتها الأكاديمية، في مجال الأدب والمعرفة عمومًا توجد قائمة طويلة لرموز اعتلوا قمم نجاحات ليست من صميم تخصصهم، ولكنهم اندفعوا اندفاعًا تلقائيًا لما يحبون، فكانوا علامة فارقة في تاريخ صناعة تلك العلوم وما تبعها من ابتكارات.. وكم يرزح تحت وهم ووطأة الشهادة مخدوعون، ظنوا أن التخصص هو قرين النجاح والتميّز، فلفظوا أناسًا راغبين ولكن الشروط (العقيمة) حرمت مجتمعاتهم والإنسانية من نفحات حماسهم، ولمسات تفانيهم.. إن استنساخ التجارب من الدول الأخرى لا يعني بالضرورة نجاحًا، بل قد يكون سيلاً من الخيبات والسقطات في براثن التخلف عن ركب الحضارات، وعن المنافسة في مضمار النجاحات، وحينما نتحدث عن تلك المعايير التي تُشترط بأسلوب جاف لا يراعي إلا لغة الأرقام في إثبات النجاح والقبول، فإنه من المحتوم أننا بعيدون كل البعد عن طريق الريادة في مجالات المعرفة والابتكار الشهادة مطلوبة، ولكن الاعتماد عليها كوسيلة هو رجوع للخلف، أو ثبات، وما تطمع إليه الدول من تحفيز لطلابها وعمالها قد يكون هو معول الهدم الذي يهدم كل الطاقات والرغبات والأحلام العظيمة والنبيلة.. إن المهارة دافعها الأعظم هو التفاني والرغبة، وهذان العنصران إذا ما فُقدا فسيكون الإنتاج رديء، والابتكار فقير، لذلك وجب على صانعي قرار التعليم ومستشاريه أن ينقذوا ما يمكن إنقاذه في صميم بنية الميدان، لا في قشور أنظمة ورخص واشتراطات لا تمت للتعليم وللمهن بأي طريق من طرق النجاح والتمكين والعلو في سائر مناحي العلم والنجاح.. وإذا ما تساءل أحدهم كيف توضع معايير للمهارة أو الشغف حتى لا يكون التعليم وتخصصاته حَرمًا مستباحًا يدخلها كل من ليس من أهلها على سبيل التجربة والخوض والمغامرة، فالأمر أسهل مما يظن (مبتكر العراقيل) وعلى سبيل الحلول لا حصرها أن يوجد مسار لمن لم تتحق فيهم الشروط المؤهلة لخوض التخصص أن يتعهد بدفع تكاليف دراسته في حال فشل في تحقيق المعايير المطلوبة من النسبة المقررة في التخصص الذي يرغب الالتحاق به ويتم تحصيل تلك الديون بطريقة لا يتسنى له الاعتذار عنها.. هنا سيقدم على تلك المغامرة الشغوف بالتخصص، وقد نرى نجاحًا بارزًا لأصحاب هذا المسار يبرعون ويتفوقون فيه على من حققوا الشروط والمعايير المطلوبة للقبول في التخصص.