أضلاع مثلث المعرفة معروفة، قوامه ابتكار، وبحث ومن ثم تنمية. لكنه ليس مطبقاً بالضرورة. فالبيئة المعرقلة للابتكار كثيرة، والعوامل المناهضة للبحث كثيرة، ومن ثم تستعصي التنمية على مجتمعات بأكملها. أحد تلك المجتمعات هو المجتمع المصري الذي يعاني منذ فترة طويلة من مناخ غير مهيئ للبحث والابتكار. وعلى مدى السنوات القليلة الماضية، صدرت تقارير التنمية البشرية الوطنية لافتة إلى ضرورة البدء الفعلي لدفع المجتمع ليكون قائماً على المعرفة الديناميكية التي لن تتم إلا من بوابة الابتكار. لكن مفهوم الابتكار في حد ذاته يحتاج إلى الكثير من أجل الوصول به ليكون جزءاً لا يتجزأ من تفكير الشباب والأخذ بيده ليخرج إلى حيز التفعيل، أي البحث ومن ثم بدء مشوار التنمية، والذي بدأ بالفعل في السنوات القليلة جداً الماضية من خلال خطوات فعالة جعلت الدولة تضع البحث العلمي نصب عينيها باعتباره طريقاً للوصول إلى بر التنمية الحقيقية. 11 مليون يورو هي الموازنة التي خصصها الاتحاد الأوروبي لبرنامج البحوث والتنمية والابتكار التابع لوزارة التعليم العالي والبحث العلمي المصرية والذي بدأ في تشرين الأول أكتوبر عام 2007 ويستمر ثلاثة أعوام. البرنامج يخاطب الباحثين في الجامعات ومراكز البحث العلمي، إضافة إلى الصناعات والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة الحجم في القطاعين العام والخاص والجمعيات، سواء كانت في صورة أفراد أو مؤسسات، لكن يشترط في الجميع امتلاك روح الابتكار. لكن ما هو الابتكار؟ هو إنشاء أو استحداث شيء ما، قد يكون إدخال فكرة جديدة إلى السوق على شكل منتج أو سلعة أو خدمة أو حتى تحسين خدمة ما مقدمة. لكنه في النهاية يسهم في عجلة النمو الاقتصادي ويقدم منفعة ما إلى المجتمع. لكن البعض يخلط بين الاختراع والابتكار، والمطلوب بحسب برنامج البحوث والتنمية والابتكار ليس اختراعاً بل ابتكاراً. ليس المطلوب التوصل إلى فكرة جديدة أو منتج لم يسمع عنه أحد، بقدر ما هو الوصول بهذا المنتج إلى حيز التنفيذ، اي تحويل الفكرة إلى مشروع مجد اقتصادياً وتجارياً. بمعنى آخر ما يسعى إليه البرنامج ليس اختراع العجلة بقدر ما هو وضع تصور واقعي لكيفية تسيير العجلة. فضاء، طاقة، ماء، زراعة، تعليم، تكنولوجيا حيوية، بيئة، كومبيوتر واتصالات، صحة ودواء، صناعات تحويلية، مواد أولية وجديدة، تكنولوجيا النانو، غذاء... كلها مجالات مفتوحة أمام كل من لديه قدرة على الابتكار. وتقول الخبيرة المصرفية ومسؤولة تنسيق البرنامج في مفوضية الاتحاد الأوروبي في القاهرة غادة مصطفى ان الصندوق يقدم منحاً تنافسية من خلال إعلانات للتقدم بطلب دعم مشاريع، ويدعم المشاريع المناسبة بنحو 90 في المئة من كلفتها. هذه المنح مقسمة إلى قسمين: الأول يركز على المشاريع التي ستساهم في تحقيق تنمية مستدامة في مصر من خلال زيادة رأس المال الاستثماري، ودعم الابتكار والتنمية التكنولوجية وتحسين القدرة التنافسية لشتى القطاعات الاقتصادية. وهو في الوقت نفسه يهدف إلى تعزيز التعاون مع دول أوروبا وحوض البحر المتوسط للتمكين من نقل التكنولوجيا والمعرفة وأفضل الممارسات العالمية للمؤسسات المصرية في شتى المجالات. أما النظام الثاني فهدفه تعزيز التعاون بين البحث العلمي والصناعة، مع رفع مستوى الوعي بأهمية البحث والتنمية والابتكار في تطوير التكنولوجيا وأثرها في المجتمع المصري. وبما أنه يركز على القطاعات العاملة بالفعل في السوق، فهو يهدف كذلك إلى إيجاد حلول سريعة للمشكلات التقنية التي تواجه المؤسسات والشركات الصغيرة والمتوسطة. وعلى صعيد المبتكرين من الأفراد، يهدف إلى تمكينهم من تنفيذ بعض الأفكار التي لا تتطلب تمويلاً ضخماً. المشروعات التي لا تتطلب تمويلاً ضخماً، أو المشروعات الصغيرة، والتي يبلغ حد تمويلها الأقصى 25 ألف يورو لها أكثر من غاية، فهي لا تهدف فقط إلى دعم التعاون وتشجيعه بين المجتمع البحثي والصناعة، ومن أبرز أهدافها غرس ثقافة الابتكار والبحث في مصر. ويقول منسق برنامج البحوث والتنمية والابتكار ومنسق التعاون الأوروبي في وزارة التعليم العالي والبحث العلمي الدكتور عبدالحميد الزهيري إن فكرة الشراكة بين القطاعين البحثي والصناعي واضحة في المشروعات الكبيرة، لكن هناك حاجة ماسة للخروج بتطبيق ينتج عنه ابتكار سلعة أو خدمة أو طريقة تسويق أو فكرة وربطها بمجال الصناعة، وهذا لا يتوافر إلا في المشروعات الصغيرة حيث الحاجة ماسة إلى الشراكة مع الصناعة. ويضيف:"لدينا حاجة ماسة إلى نشر ثقافة ووعي الابتكار، وهو ما دفعنا إلى تحديد مجالات بعينها يتم التقديم للحصول على دعم لها، وذلك من خلال مسابقات في مؤسسات ومشاريع مثل"أكاديمية سيكيم هليوبوليس"المعنية بالزراعة وإنتاج المنتجات الزراعية الغذائية، ومركز تحديث الصناعة المصري، اذ تم الإعلان عن جوائز لمشاريع مقدمة من المدارس الفنية التابعة لها". قضية نشر ثقافة البحث والابتكار تأتي ضمن أولويات البرنامج، ويتحدث عنها الدكتور عبدالحميد الزهيري بكثير من الاهتمام. يقول:"نود أن نوجد شغفاً بالعلوم، وهو ما لن يحدث إلا إذا بدأنا في غرسه منذ الصغر. وهناك مثلاً مشروع تقدم به السيد محمد الصاوي صاحب فكرة ساقية الصاوي للأنشطة الثقافية عنوانه"دعوني أفكر"والذي يخاطب الأطفال بين سبعة و15 عاماً، ويهدف إلى جعل التفكير عادة من خلال ورش عمل تقام للأطفال. وهناك أيضاً مشروع"إلى النانو"والذي تقدم به الدكتور محمد عبدالمطلب وهدفه تعريف طلاب المدارس الثانوية بتكنولوجيا النانو التي تعد بحق تكنولوجيا المستقبل في مجالات لا أول لها ولا آخر". وتتحدث غادة مصطفى بكثير من الحماسة الناجمة عن حجم الإقبال الضخم من المبتكرين على التقدم إلى البرنامج للحصول على منح تمكنهم من تحويل ابتكاراتهم إلى واقع:"تقدم إلينا الآلاف ممن سجلوا براءات اختراعات بأسمائهم، ولم تكن لديهم الوسيلة المثلى لتنفيذها، وآخرون لهم شركاء سواء داخل مصر أو في دول أوروبية، وفريق ثالث ذو صلة بجامعات وهيئات بحثية، وذلك في مجالات متعددة". وعلى سبيل المثال لا الحصر، هناك مشروع تقدمت به مؤسسة زراعية تحوي شركاء من مصر وإيطاليا وإسبانيا هدفه تحقيق التنافسية الزراعية من خلال تبني طريقة بحثية قادرة على تقصي المنتجات الزراعية المصرية من أجل كسب الثقة بها. مشروع آخر مجاله تحصينات الطيور الداجنة في مصر ضد الفيروسات التي تهدد هذه الصناعة الحيوية، وثالث بعنوان"دعني أفكر"يستهدف الأطفال وهدفه جعل التفكير عادة لديهم، وإعلاء شأن الخيال ودعم الثقة في النفس والقدرات، ورابع عن النانو تكنولوجي ولكن من خلال التعريف بهذه التكنولوجيا المسقبلية المتطورة في المدراس الثانوية بغرض تأهيل الشباب على هذا النوع من العلم، وخامس عن استخدام الطاقة الشمسية في اجهزة التبريد، وغيرها المئات بل الآلاف من الابتكارات. الخطوة الأولى للتقدم بالابتكار هي تقديم شرح مبدئي له في نحو أربع صفحات، وفي حال قبوله، تبدأ الخطوة الثانية وهي ملء استمارة مع شرح واف له. ويتم دفع نحو 60 في المئة من قيمة تكلفة المشروع كقسط أول، على أن تتم متابعة كل مشروع على حدة. وتكون المتابعة دورية لضمان تنفيذ المشروع وفقاً لقواعد علمية متفق عليها. وقد وضع البرنامج معايير واضحة للمشروعات المقدمة، فمنع تماماً طلب التمويل من أجل بحث علمي هدفه الحصول على شهادة علمية، أو للسفر لحضور ندوات أو ورش أو اجتماعات، كذلك المنح الدراسية والدورات التدريبية، إضافة إلى إعادة منح المنح. وهو ما يعني أن المنح المتاحة هي فقط للمشروعات التي يقدر لها أن تحقق فائدة فعلية يمكن رؤيتها بالعين المجردة. وإضافة إلى تنمية روح الابتكار، وإعادة الثقة في مجال البحث العملي، وربط البحث بالسوق والاقتصاد والصناعة، تلفت مصطفى إلى"ميزة مضافة لمثل تلك المشاريع، إذ إنها تنمي ثقافة الأعمال والمشروعات الصغيرة، وهي ثقافة في حاجة إلى مزيد من الدعم والمساندة في مصر". ويلفت الزهيري إلى أن أحد مكونات البرنامج هو تقويم البحث والأداء ومراقبتهما في مصر،"فمشكلتنا الرئيسة كانت في عدم وجود آلية واضحة لتقويم أداء البحث العلمي. فهناك حاجة ماسة لوضع مؤشرات للابتكار وسياسات واضحة لتقويم الأداء، وهو ما استدعى الاستعانة بخبرة أجنبية، فاستعنا بمؤسسة فراونهوفر الألمانية التي تعد قبلة المراكز البحثية الكبيرة الشأن لسن إطار واضح يتم على أساسه تقويم البحث العلمي في مصر". وفيما مدة المشروع ثلاث سنوات تنتهي العام المقبل، يرى الزهيري أن فوائده تتمتع بصفة الاستمرارية. ويقول:"قيمة البرنامج الحقيقية ليست في حجم التمويل البالغ 11 مليون يورو نحو 85 مليون جنيه مصري على مدى السنوات الثلاث فموازنة صندوق العلوم والتكنولوجيا المصري في عام واحد 2008 - 2009 بلغت 300 مليون جنيه. لكن قيمته في أنه ساعد على وضع إطار وزرع قواعد وأسس وعمل كيان واضح للبحث العلمي، وهو ما كان ينقصنا. وهذا سيستمر بالطبع بعد انتهاء البرنامج". الطريف أن الجانب الأوروبي كانت تنتابه بعض الشكوك في إمكانية تطبيق البرنامج، لا سيما أن فترة الإعداد له استغرقت وقتاً طويلاً للغاية، ما كاد يهدده بالفشل، لكن النتيجة التي وصل إليها جعلت الاتحاد الأوروبي ليس فقط واثقاً من إمكان تطبيق قواعد البحث العلمي في إطارها السليم، ولكن في قدرة الجانب المصري على عمل إضافات وتحسينات على تلك القواعد لتصبح أكثر ملاءمة". وعن طبيعة توازن الفائدة والمصلحة في البرنامج بين الجانبين المصري والأوروبي، يقول الزهيري إن سياسة الجوار تدعم التعاون بين دول الاتحاد الأوروبي ودول الجوار وهو تعاون ثنائي، اي لا يصب في مصلحة طرف دون الآخر،"ويكفي مثلاً أنه بين المشروعات الكبيرة التي موّلها البرنامج وعددها 21 مشروعاً، هناك 15 مشروعاً منها تضم شركاء أوروبيين". أوروبا جارتنا مشروع إعلامي مشترك متعدد الوسائط بين"الحياة"وتلفزيون"ال بي سي"وصحيفة"لوريان لوجور"الناطقة بالفرنسية، يموله الاتحاد الاوروبي ويهدف إلى تسليط الضوء على مشاريع الاتحاد وبرامجه في منطقة حوض المتوسط عبر تقارير تلفزيونية ومقالات صحافية تنشرها"الحياة"اسبوعياً وتحمل علامة المشروع. المقالات المنشورة لا تعبر بالضرورة عن رأي الاتحاد الاوروبي. للاطلاع زوروا موقع: www.eurojar.org