تسعى المجتمعات إلى الرقيّ دوما وباستمرار، ولا يكون رقيّها إلا برقيّ الإنسان فيها. فهو أداة الرقيّ وهو غايته. وكلما سعى الإنسان جاهداً إلى السمو بنفسه وأرضه ووطنه يجد نتاج سعيه في نفسه وواقعه. والسؤال الآن كيف يتحقق هذا الأمر؟ للإجابة عن هذا السؤال لا بد أن نواجه سؤالاً أكبر منه وأسبق منطقياً في الطرح ألا وهو ما الإنسان أو من الإنسان أو ما هو الإنسانيّ في الإنسان؟ لا شك أن هذا السؤال هو من أقدم أسئلة الفلسفة منذ ظهورها. وأعني السؤال الذي صاغه سقراط حين قال: "أيها الإنسان اعرف نفسك بنفسك". وهو السؤال نفسه الذي صاغه المسلمون حين قالوا: "ومن عرف نفسه فقد عرف ربه". ومع ذلك يظل السؤال عصياً والبحث عنه مستمرًا، كيف لا وقد عبّر "مسكويه" عن الأمر فقال: "لقد أشكل الإنسان على الإنسان" تأكيداً منه بأنه السؤال الأكبر الذي يعيد فرض نفسه دوماً دون أن نظفر بجواب كافٍ ومريح. والسبب في ذلك أن معنى الإنسان وإن كان في جوهره الكائن الذي كرّمه الله وأمره بالاستخلاف وإعمار الأرض، فإنه يبقى أيضاً الكائن التاريخي، ابن الزمان والمكان، أي ابن التاريخ والمجتمع. ولأن الأمر كذلك، نرى أن جميع المجتمعات مهتمة بهذا الأمر فتضع رؤيتها وترسم لنفسها طريقها، وتوجّه سيرورة وجودها لتضمن للإنسان فيها حسن البقاء. ولأن الأمر كذلك فإن تحقيق هذه الرؤى البانية للإنسان لا يكون إلا إذا نجحنا في توجيه نظرنا إلى جوهر الإنسان وسر نجاحه، ونعني بالجوهر روح الإنسان، أي فكره وعقله. فالإنسان إنسان بنفسه لا بجسمه فقط، والرقي به لا يكون إلا بالارتقاء بجوهره الفكري والعناية به، أي تربية فكره وعقله والسمو به. بهذه الصورة نكون قد رسمنا لأنفسنا الطريق الملكيّ لحياة الإنسان الكريمة. والطريق الملكيّ في الإنسان هو طريق عقله وفكره. إن محبة التفكير هي قدر الإنسان. ونعني بمحبة التفكير، أن يعيش الإنسان صديق الفكر والتفكير أي يسير في طريقه طالبا الحكمة بجميع صورها النظرية والعملية. ونعني بمحبة التفكير أيضاً السير في طريق الحقيقة وطلبها، وهو سير متواصل لا ينقطع لأن السير يقتضي عدم الوصول إلى يقين نهائي. إن ادعاء بلوغ يقين نهائي يؤدي ضرورة إلى انتهاء الإنسان وتوقف وجوده. فإذا كان وجوده الجوهري والحقيقي وجود فكري، فإن ادعاء بلوغ اليقين النهائي إعلان لإيقاف التفكير أي إعلان لإيقاف حياة الإنسان الحقيقية. فمن ادعى إدراك حقيقة كلّ شيء أو ملكيته لليقين النهائي، فقد أعلن موت الإنسان في الإنسان. والناظر في تاريخ البشرية يتأكد من هذه الحكمة الربانية المودعة في الإنسان. يعلمنا التاريخ بجميع حقبه، ويعرّفنا بالمراحل التي عاشها الإنسان وجميع التطورات التي أنجزها. فنتأكد أن الإنسان الأول ليس الإنسان الآن. وإنسان القرون الوسطى ليس الإنسان الأول ولا الإنسان الآن. ولا يزال الإنسان الآن يرتقي ويتطور خدمة للعلم وأهله أي خدمة لنفسه، تحقيقا لإنسانيته ودوره في الاستخلاف والإعمار. وبهذا العمل والرقي الفكري ارتقى الإنسان ولا يزال. وبهذا المعيار تتفاضل الأمم والأفراد. الإنسانية اليوم أمام امتحان كبير. وهو امتحان قديم متجدد. لأن البشرية في كل مرحلة من مراحلها تواجه قوتين كبيرتين. قوة تناشد التفكير وتطلبه دوماً تصحيحاً لأخطاء علومها ومعارفها، وارتقاء بالإنسانية أكثر. وقوة تناشد البقاء حيث هي فتتعصب لحقائقها وتتشبث بها. ولا شك أن كل تعصب مهما كانت طبيعته يُسقط أصحابه في الوثوقية القاتلة للفكر وأصحابه. ولا شك أيضا أن المؤمنين بالحركة الفكرية الدائمة لا تهدأ عقولهم على المواصلة والنشاط تجسيما لمبدأ حب التفكير انسجاماً مع جوهرية الإنسان العاقلة. وأن الآخرين الوثوقيين الذين أعلنوا توقف التفكير يمثلون عقبة كأداء تعيق أصحاب الفكر وممارسيه. ورغم هذا الصراع الأبدي بين محبي الإنسان أي محبي التفكير، وأعداء الإنسان أي أعداء التفكير، فإن درس التاريخ يؤكد بأن الغلبة دوماً تكون لصالح محبي التفكير وطالبي الحكمة، وهؤلاء هم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء. ولهذا السبب كانت الفلسفة، وما زالت القوة الفكرية الأكبر في التاريخ الحاملة لشعار محبة الحكمة والسير في طريقها خدمة للإنسان وتحقيقاً لإنسانيته. وفي هذا السياق لا بد أن نميّز بين الفلسفة الحقيقية والفلسفة الزائفة. أي بين فعلين في الفكر الفلسفي بين فعل الناقلين المكررين لأقوال الفلاسفة، وفعل المتفلسفة الحقيقيين الذين يمارسون فعل التفلسف دوماً. وبالتالي يكون سير الفلسفة الفعلي متجهاً نحو التفلسف أي محبة التفكير، وممارسته الذي لا يكون إلا بعد مغادرة المذاهب الفلسفية بعد تعلمها. فالفلسفة أي تاريخها شيء، والتفلسف أي محبة التفكير وممارسته شيء آخر. وبهذا تكون مهمتنا أن نتحول ضرورة من الفلسفة إلى التفلسف. ومعرفة هذا الأمر سؤال آخر يحتاج ورقة أخرى.