أزمة كورونا، بقدر ما هي مؤلمة وقاسية، وفرضت علينا نموذجًا سلوكيًا غير اعتيادي بحكم الإجراءات والتعليمات الصحية، إلا أنها أيضًا كشفت عن قدراتنا الهائلة في التماهي معها واستنباط أفكار وسلوكيات جديدة ربما لم تكن مألوفة من قبل.. وسط زخم الدراما الفنية على الشاشة الصغيرة، التي تبدو موسمًا "رمضانيًا" معتادًا كل عام له نكهته الخاصة أو المتميزة، ورغم كل الجدل أو التناقضات في الآراء حول هذه الأعمال.. إلا أن ما قرأته عن مبادرة وزارة الثقافة بإقامة معرض فني افتراضي تحت عنوان "فن العزلة" عبر منصة إلكترونية خاصة، تم تفعيلها للمرة الأولى في المملكة، من أجل تشجيع الفنانين السعوديين على مشاركة أعمالهم الفنية التي أبدعوها خلال فترة العزل الوقائي وعرضها للجمهور في فضاء إلكتروني يحاكي المعرض الحقيقي - لهو تجربة غاية في الإبداع، تحاول التغلب على مستلزمات وإجراءات التعامل مع جائحة فيروس كورونا، وتقديم رؤية من خارج الصندوق، تستثمر تقنيات الواقع الافتراضي، وتقدم تجربة فنية كاملة للزائر وهو في منزله. المنصة - حسب بيان لوزارة الثقافة - تقدم للزائر محاكاة واقعية للمعارض الفنية، وتسمح له باستعراض محتويات المعرض والتنقل بين صالاته عن طريق جهازه الإلكتروني؛ حيث يتضمن المعرض صالات متنوعة، مخصصة للهواة والمحترفين، من أبرزها صالات "بورتريه عزلة"، و"عزلة رقمية"، و"عزلة فنان"، "عزلة تجريدية"، و"عزلة الاحتراف"، وهي الصالة المخصصة لعرض الأعمال الفنية لفنانين محترفين، كما خُصصت إحدى الصالات للأطفال بعنوان "مواهب عزلة". هذه الصالات المميزة تأتي كنافذة ضوء تتماشى مع نظرية التباعد الاجتماعي المطلوبة حاليًا وبشدة من جهة، ومن جهة أخرى لا تحرم الإبداع من الانتشار لحلحلة العزلة الراهنة وتفككها بأبعاد وملامح تستوعب حالة التذوق الفني وتنشر مدارسها المتعددة وسط الجمهور المتذوق، وفي الوقت نفسه تبقي على التفاعل بين الفنان - أيًا كان موقعه أو منهجه أو وسيلته - وبين المتلقي، باستخدام التقنية العلمية التي أصبحت وجهًا آخر لمفهوم العولمة بشكلها المستقبلي. تبني وزارة الثقافة لهذا الرؤية أو المنهج ينبئ عن أن لدينا عقولاً وقدرات تستطيع التعامل مع التحديات - أيًا كانت أزماتها أو أوجهها - وتطويع مفرداتها لتتلاءم مع الظرف القاسي، وبشكل أستطيع أن أؤكد أنه سيبقى ملمحًا جديدًا في تعاملاتنا في مرحلة ما بعد الأزمة/ الجائحة. والأجمل في الأمر، أن المبادرة لم تتجاهل ذائقة الطفولة الفنية سواء من خلال تعبير مواهب الأطفال أنفسهم، التي تحتاج للرقي بها والأخذ بيدها، أو تلك الأعمال الموجهة للأطفال وشريحتهم العمرية بأكملها.. وهذا يعني أننا في الوقت الذي نكسر جدران العزلة حول فنانينا الكبار، فإنها أيضًا تستخرج طاقات المواهب الصغيرة وتشجعها وتنميها. وهنا، أجد أن أزمة كورونا، بقدر ما هي مؤلمة وقاسية، وفرضت علينا نموذجًا سلوكيًا غير اعتيادي بحكم الإجراءات والتعليمات الصحية، إلا أنها أيضًا كشفت عن قدراتنا الهائلة في التماهي معها واستنباط أفكار وسلوكيات جديدة ربما لم تكن مألوفة من قبل، وهذا ما يشجعنا مستقبلًا على الاستفادة القصوى من العالم الافتراضي الذي يعيشه أغلبنا حاليًا، واكتشاف أساليب جديدة، خاصة أن كل المؤشرات الموضوعية تؤكد أن عالم ما بعد "كورونا" لن يكون كما قبلها! وهنا أيضًا، تكون التحية واجبة لسمو وزير الثقافة الشاب الأمير بدر بن عبدالله بن محمد بن فرحان آل سعود، وفريق عمله الإبداعي، الذي يعمل بطاقة الشباب الكفيلة بالتسابق مع الزمن من أجل مملكة تتوشح برؤية 2030 الاستراتيجية بكل عنفوان قدراتها وشبابها وأفكارها الرامية إلى تغيير نمط الحياة في المجتمع السعودي بثقة ورسوخ. إننا أمام حالة متفردة وطموحة تلخص حلمنا الكبير بتمازج واضح، نتمنى أن يتألق باستمرار، ليس كمحاولة لكسر العزلة في زمن كورونا فقط، ولكن ربما تكون خطوة مبدئية تستشرف المستقبل بواقعية نفسية قبل أن تكون عملية.. وهذا هو الأهم.