"كورونا".. هذا الزائر المزعج الذي دخل إلى مجتمعاتنا بلا عنوان فأوقف الحياة في معظم مظاهرها الجميلة، وفرض سلوكيات اجتماعية مختلفة لم نعهدها سابقاً، فحولها من حياة روتينية رتيبة إلى حياة أخرى مختلفة، فيا ترى كيف حدث ذلك؟ وماذا صنع بنا هذا الفيروس الذي تغلغل في أهم جزء من حياتنا وهي صحتنا التي هي أغلى ما نملك؟ هذه المدن والقرى التي كانت تضج بالحياة والحيوية والنشاط في وقت مضى، تحولت بين لحظة وضحاها إلى مدن وقرى شبه مهجورة، تخيم عليها السكينة ويغمرها الهدوء، السيارات اختفت، والمدارس والجامعات أغلقت، والمؤسسات توقفت أعمالها، والمطاعم والمقاهي لم تعد تحظى بمرتاديها المعتادين، حتى صوت الصلاة لم نعد نسمع منه إلاّ الأذان، ولم يبق من ذاكرة المدينة إلاّ منازلها التي تمتلئ بأفرادها بعد أن كانوا يهربون منها إلى أعمالهم ومدارسهم وإلى الفضاء الرحب لحضور المناسبات الاجتماعية أو للقاء أصدقائهم، أو لتمضية أوقات الترفيه خارج حدود المنزل، أو فقط للهروب من المنزل الذي كان في وقت من الأوقات يضيق بهم، في الأيام الخوالي، الأسر التي كانت تنتظر شبابها حتى الفجر ليعودوا إلى المنزل للنوم أصبحوا لا يخرجون منها إلاّ نادراً وللضرورة القصوى، كل النشاطات توقفت أو تأجلت مواعيدها ما عدا النشاطات المنزلية. ليس مُملاً أصبح المنزل اليوم هو الملاذ الآمن من خطر هذا الفيروس المفترس سريع العدوى، خاصةً مع الإجراءات الاحترازية المتعددة التي اتخذتها الدولة لمكافحته والحد من انتشاره، الجميع مطالب بالبقاء في المنزل صغيراً كان أو كبيراً حتى لا نسهم في انتشار هذا الزائر المزعج الذي ندعو الله أن لا يطول بقاؤه بيننا، وأن يذهب غير مأسوف عليه في أقرب فرصة ممكنة، فكيف تقضي الأسرة يومها في المنزل؟ وعلى الرغم من أزمة كورونا إلاّ أنه أعاد اكتشاف مفهوم الأسرة، ومفهوم الاجتماع الأسري، أعاد اكتشاف مواهب جديدة بين أبنائنا لم ندركها سابقاً بحكم مشاغلنا الكثيرة سواء كانت حقيقية أو كنا اخترعناها وسيلة للهروب من المنزل والأسرة، تغيرت نظرتنا إلى أنفسنا وإلى الأقربين من حولنا، اكتشفنا أن البقاء في المنزل ليس مملاً كما كنا نعتقد سابقاً، وأن المطبخ مكانه قريب ومن الممكن ممارسة نشاطات مختلفة من خلاله، وأن الأكل في المنزل ومن صنع اليدين أكثر متعة وراحة من طلبات التوصيل أو الذهاب إلى المطاعم، هذا خلاف المبالغ المالية الضخمة المطلوبة للمطعم أو طلبات التوصيل. اكتشفنا أنفسنا والآخرين من حولنا، اكتشفنا أنهم لطيفون ومحبوبون ومقبولون أكثر مما كان ينطبع في مخيلتنا عنهم، وأن البقاء معهم وتحت سقف واحد ليس بذلك السوء الذي كنا نعتقده سابقاً، اكتشفنا أن التعايش المريح مع الوالدين لا يتطلب سوى أن نفهمهم ويفهمونا وأن نتجاوز عن الصغائر وعن اللوم المتكرر، وأن نحترم فيهم حرصهم المستمر علينا. نمط مختلف في المقابل ينظر البعض إلى المنزل على أنه سجن اختياري أجبرتهم ظروف هذا الفيروس على البقاء فيه، ولم يستطيعوا التأقلم مع الظروف الطارئة، فحاولوا الهروب إلى أجهزتهم الذكية يمضون أمامها الساعات الطوال دون حسيب أو رقيب، نعم نحن نعيش عصر التقنية، ومن الطبيعي أن يكون الجوال بين أيدينا ولكن من غير الطبيعي أن يأخذنا الانشغال بهذا الجهاز إلى الانعزال عن الآخرين حتى لو كنا بقربهم في مكان واحد وغرفة واحدة، وآخرون أصبحت مسؤولياتهم الأساسية التي وصلت حد الإدمان تمثلت في متابعة الأفلام والمسلسلات من خلال القنوات الفضائية أو الشبكات المدفوعة، أمّا بعض الأسر فحاولت أن تفرض نمطاً حياتياً مختلفاً لقضاء وقت الفراغ يساعد على لم شمل الأسرة في مكان واحد، فلجأت إلى الاستعانة ببعض الألعاب الجماعية الترفيهية المختلفة لتمضية وقت الفراغ وتحقيق الاجتماع بين أبنائها. وتحولت أسر أخرى إلى المطبخ، فرأينا الشباب والكبار وهم يجربون خبراتهم في المطبخ، إما بطبخات كلاسيكية تعلموها من طلعات البر أو الاستراحات، أو من كتب الطبخ المتوفرة على اليوتيوب، أو فقط بدؤوا في تجربة الطبخ لأول مرة كنوع من التغيير وكسر روتين البقاء الممل في المنزل. تباعد اجتماعي هذه جولة بسيطة على ما تقوم به الأسر مع منع التجول، وإن تفاوت تعاملها مع هذا المفهوم إلاّ أنها لا تختلف في شيء واحد فقط وهو البقاء في المنزل مهم للوقاية من عدوى هذا الفيروس، وأخيراً لا ننسى أن هلع الإصابة بات يفرض علينا القيام بتصرفات وسلوكيات لم نعهدها سابقاً، السلام ممنوع، والتباعد الاجتماعي مطلوب حتى لو كانوا من أقرب المقربين لك أخوة أو جيراناً، ولبس القفازات والكمامات هو إحدى وسائل الحماية المطلوبة من هذا الوباء الغامض، وتعددت طرق وسبل التعايش والبقاء في المنزل، ولكنها تتفق على أنها لا تستطيع الخروج منه إلاّ بعد زوال الخطر.