قارب العالم عتبة المليوني إصابة بفيروس كورونا؛ وفي البحث عن أسرار هذا المرض القادم من الشرق وأخباره المتناثرة هنا وهناك، نستحضر التجربة الصينية بكل ألغازها وتنوع أساليبها في رصد ومحاصرة هذا الوباء، فهل يمكن اعتبار هذا النموذج مثالاً يمكن الاعتماد عليه؟ نحن أمام العديد من النظريات كنظرية مناعة القطيع البريطانية المنشأ أو نظرية تسطيح المنحنى أو العزل الاجتماعي الصينية، فالصين هرعت على تطبيق مجموعة من التدابير الاستراتيجية لإبطاء الانتشار، بمعنى توزيع الإصابات على مدة زمنية أطول، ولا تستهدف هذه السياسة تخفيض العدد الإجمالي للمصابين بالفيروس، بقدر ما تحاول الموازنة بين مراحل تفشي الوباء وقدرات قطاع الرعاية الصحية، ويتم ذلك من خلال تأجيل الوصول إلى نقطة الذروة بمنحنى انتشار الفيروس، لتوزيع المصابين بالفيروس على فترات زمنية أطول، بما يسمح للنظم الصحية باستيعاب الأزمة. ولفهم دقيق لتجربة الصين لا بد أن نتعرف على هذه التدابير الصارمة التي قامت بها؛ حيث طبقت إجراءات حجر صحي صارمة وصفت بالقاسية، لاحتواء انتشار الفيروس، وكسر حلقات انتشار العدوى، خاصة في موطنها الأول "ووهان"، وأغلقت السلطات المصانع والمحلات والشركات، وأوقفت وسائل النقل العام. ومنعت التجمعات وألغت الفعاليات والأنشطة الثقافية والرياضية، وأغلقت المدارس والجامعات والمسارح، وشيدت السلطات مستشفيات ميدانية بسرعة غير مسبوقة في ووهان. وفرضت غرامات على من لم يلتزم بإجراءات العزل أو حتى عدم ارتداء الكمامات، وقد أظهر الصينيون درجة كبيرة من الوعي في الأزمة، خاصة في ووهان والبر الرئيس للصين، فطبق السكان العزل طواعية، وهو أمر كان فاصلا في معركة الصين مع فيروس كورونا. الصين أظهرت أنه بالإمكان تغيير مسار المرض بالوضع الطبيعي، فإن انتشار مرض كهذا ينمو بشكل كبير ويصل إلى ذروته، ومن ثمّ سينخفض بشكل طبيعي بمجرد إصابة جميع الأشخاص المعرّضين للإصابة أو تطور المرض، إلا أن ذلك لم يحدث في الصين لأن عدد الحالات لم يكن طبيعيا، إنه وباء تم القضاء عليه أثناء نموه وتوقف في مساره، فالمسار الطبيعي للمرض لا يكون بالضرورة عالي الذروة يرهق الخدمات الصحية، وهو درس يمكن للدول الأخرى أن تتعلم منه وتتكيف بحسب الظروف. من المؤكد أن حملة مكافحة فيروس كورونا الجديد ستصبح صفحة استثنائية في تاريخ البشرية، كما أن التماسك والتضامن الصيني في مواجهة الفيروس يجعل العالم يشعر على نحو متزايد بأن إرادة الشعب الصيني لا يمكن أن يتحداها شيء، وتم اكتشاف طرق جديدة للاستجابة لحالات الطوارئ الصحية العامة، ولم تعد قوة الدول القومية تُقاس بحجم ما تمتلكه من ثروات طبيعية أو بشرية أو قوة اقتصادية أو عسكرية فحسب؛ بل أصبحت هذه القوة مرهونة - بدرجة كبيرة - بقدرة الدول على منع نشوء مسببات الأمراض، وكذلك الاكتشاف المبكر والإبلاغ عن الأوبئة ذات الطابع العالمي، إضافة إلى الاستجابة السريعة والتعامل الناجح معها.