أصبح الفرد منا يسعى إلى الوجاهة المكتسبة؛ وهو خواء اجتماعي - إن جاز التعبير - يجب أن نتغلب عليه لصالح البناء الاجتماعي الذي أوشك أن ينهار، لأن القيمة الإنسانية أصبحت مكتسبة ومنها يتشيأ الفرد وبالتالي المجتمع!.. الوجاهة هي مصطلح عربي يعرفه قاموس المعاني ب(السادة) فيقول: وإن الوجيه هو سيد القوم، ومن المعروف أن العرب هم من أسس لمعنى الوجاهة، فالعربي هو من يلقب نفسه بسيد الصحراء، ذلك الامتداد الشاسع والأفق الممتد هو ما أكسبه هذا الإحساس بالسيادة، فالرحابة ملكه، والأفق لا ينتهي والسماء غير غائمة والجبال غير قاهرة أو محيطة تكسر البصر، كما أن التنقل بحرية مستفيضة جعله يمتلك هذا الحس بالتسامي، بالإضافة إلى قدرته على القنص والصيد والفروسية وغير ذلك من مكتسبات الطبيعة؛ ولذا تكوّن لديه هذا السمو والإحساس به، فكان يحتقر المهن، فمن هم من عمال المهن يعتبرهم أقل شأناً وأدنى مكانة، بينما نجد أن هذا العرف الاجتماعي - الذي أصبح سمة من سمات الشخصية - لا يوجد في المجتمعات الغربية مثل هذه التصنيفات، ولا تلك المفارقات الاجتماعية فيقول الكاتب الفرنسي (آلان دو بوتون) في كتابه "قلق المكانة": "تمنح المجتمعات المختلفة المكانة لمجموعات مختلفة من الأشخاص، صيادي الحيوانات، المحاربين، العائلات العريقة، الكهنة، الفرسان.. إلخ". ولكن هناك بذرة دُست في التربة العربية فنبتت حتى وصلت إلى يومنا هذا بشكل غابات لا يمكن هضمها ولا التظلل تحت شمسها الحارقة، وهي أن قيمة الفرد أصبحت بناء على ما يملكه من مال! هذه البذرة التي دسها العربي في تربته هي هذا التقييم وهو أن من يملك عددا أكبر من الإبل يصبح وجيه القوم، ومن هنا أصبحت الوجاهة لأصحاب المال منذ ذلك اليوم. ومما لا شك فيه أن المال له سلطانه من رفاهية وراحة وتنوع معاش وتنقل بحرية، وغير ذلك من تلبية الرغبات الإنسانية، ولكنها تنتج لنا هذا السؤال الملحّ: هل أكثر الأفراد مالاً يكون من يُمنح مصطلح الوجاهة بناء على ما يحوزه المرء من المال؟! وسأعجلك بالإجابة بأنه وبطبيعة الحال - وللأسف الشديد - أصبح أمرا سائدا ومتفشيا في الدول العربية بشكل أكبر، فالمهنيون في جل دول العالم يحظون بتقدير المجتمع ولا فرق بين قيمة وقيمة، فلكل قيمته بحسب إنتاجه ونشاطه المجتمعي والمهني وجودة ما ينتج، ولذا كان الإنتاج في تلك الدول يفوق ما تنتجه الدول العربية بكثير، وذلك لاحترام هؤلاء المهنيين واعتبارهم قيمة من القيم الإنسانية التي يجب تقديرها وهذا أمر مهم يجب أن نتأمله. ولا بد أن نعود إلى مصطلح القيمة، هناك قيمة المال، قيمة الحرية، قيمة الإنسان، وقيمة الأشياء، ومن المفزع أن تسود قيمة الأشياء على قيمة الإنسان في يوم يسود فيه إعلاء الإنسانية في جميع أنحاء العالم. فقيمة الأشياء حينما تسود يتحول فيها المرء أو قل الإنسان هنا إلى شيء، والتشيؤ هو حينما يكون الإنسان سلعة يخضع لسلطة المال فيقع تحت نير هذه السلطة القاهرة التي بها تحدد مكانته وأنا أعتبرها عبودية مقنعة؛ وسأسوق مثالا واحدا على هذا التشيؤ وهو ما أسميه ب(حمى الماركة) كمثال بسيط إذ أصبح الإنسان يكتسب القيمة مما يرتديه أو ما يمتلكه أو من قصر يسكنه أو عربة يركبها، من هنا تشيأ الإنسان وأصبحت القيمة للمادة.. وأصبح مجرد شيء يكتسب قيمته من تلك الأشياء، فكلما كان الشيء الذي يمتلكه أكبر وأغلى كانت قيمته هذه قيمة مكتسبة وليست قيمة نابعة من ذاته وهو أمر خطير على البنيات الاجتماعية، استفحل منذ ظهور الطبقات البرجوازية حيث ظهرت لنا طبقات اجتماعية مستمدة قيمتها مما تملكه، وسأقص عليكم قصة عجيبة: حينما كنت في أحد المجالس النسائية وكانت إحداهن تحمل حقيبة يد ذات ماركة عالمية، فما من جارتها في المجلس إلا أن اهتمت بها عظيم الاهتمام، وفجأة أسرت لها جارتها الثالثة بأن الحقيبة التي تحملها مقلدة، فما كان من الأولى ذات الاهتمام المبالغ فيه إلا أن أدارت لها وجهها حتى نهاية المناسبة. من هنا أصبح الفرد منا يسعى إلى الوجاهة المكتسبة وهو خواء اجتماعي - إن جاز التعبير - يجب أن نتغلب عليه لصالح البناء الاجتماعي الذي أوشك أن ينهار، لأن القيمة الإنسانية أصبحت مكتسبة ومنها يتشيأ الفرد وبالتالي المجتمع! لأنه ينتج لنا ما يسمى ب(حمى المكانة) وهو مرض عضال يقول فيه (بوتون): "إنه قلق خبيث إلى حد يجعله قادرا على إفساد مساحات شاسعة من حياتنا، يساورنا خشية فشلنا في مجاراة قيم النجاح التي وضعها مجتمعنا، وخشية أن يتم تجريدنا نتيجة لهذا الفشل من شرف المنزلة والاعتبار.. ذلك لأن تصوراتنا الذاتية تعتمد بشدة على ما يراه الآخرون فينا، فإننا نستند إلى علامات الاحترام من الناس لكي نتقبل أنفسنا". ولهذا كان يجب أن ننتبه لهذا الطفح الاجتماعي الذي تفشى في كل الوطن العربي وليس في مجتمع دون غيره، الذي من شأنه أن يعمل على خلخلة البنية الاجتماعية والنفسية أيضاً، وأن نبحث عن القيم الذاتية، والإنسانية لكي نعيد لأنفسنا ذواتها المستلبة!.