بالوعي والثقافة وصياغة الوجدان النقي السليم المؤمن بوطنه وفكره وإرثه وعلمه يمكننا قيادة العالم؛ لا بخطابات التسطيح وحملات التتفيه التي أتيحت لها منابر وسائل التواصل دونما تقييد أو ترشيد.. لم تفاجئني النبرة المتحسّرة التي شابت حديث الناقد والكاتب المثقف العميق الدكتور سعيد السريحي وهو يعلّق على مقطع ساخر لأحد المشاهير بوسائل التواصل الاجتماعي وهو يصف المثقفين ب"الغثيثين" إلى آخر ما جاء في مقطعه من صفات لهم ووصمهم بالكذب وغيره. جاء توصيف السريحي لاذعاً وعميقاً وناكئاً لِجُرحٍ مُضمَرٍ لا يلبث أن يظهر مع كلّ حديث أو إساءة للمثقفين وحالهم المتقلّب وتذبذب علاقتهم بالمجتمع وما يعتور هذه العلاقة من تجاذب ونوسان حول القبول والرفض والتعاطف والنبذ. السريحي في تعليقه العميق على المقطع أجاب قائلاً: هذا ما رُرِزئتْ به وسائل التواصل الاجتماعي.. هذا الصوت الذي يجهل، ويجهل أنه يجهل لم يكن له أن يكون مُتداولاً لولا هذه المواقع. ويضيف: مواقع التواصل أتاحت للناس أن تتباهى بجهلها؛ أتاحت لمن لم يكن يجد كرسيّاً لكي يُصغي أن يتكلّم؛ ما كان لمثل هذه الأصوات أن تظهر فضلاً عن أن تُؤثّر. ويسأل السريحي بحُرقة المثقف الغيور المذيع عبدالله المديفر: تخيّل أنك تتحدّث مِن منبر يتحدّث فيه أو من خلاله أمثال هؤلاء؟ ويجيب: هنا تأتي المأساة.. هكذا وصف السريحي المشهد بالمأساة؛ وهو وصف له ما يبرّره، وتقودنا لمسألة السخرية أو الضحك وكيف يتعاطى معها مثل هؤلاء المشاهير ووفق أي ثقافة أو شعور أو منطلق يبثّون أفكارهم وقصصهم وتندّراتهم حول الشأن العام أو أي شأن آخر؟ نظرة سريعة على تلك المقاطع تعكس خواءً فكرياً وثقافياً مُرعباً؛ إذ لا هدف سامياً أو قيمة معرفية أو ثقافية قد تستشفّها من هذا الخواء؛ هذا إذا افترضنا أنّ ثمة وعياً وثقافةً تصدر من قبل هذا الركام التسطيحي الذي رُزئت به مواقع التواصل باختلاف أقنيتها عموماً؛ لا يمكننا أن نفترض أنهم يتعاطون مع السخرية بوعي عميق مطهّر للعقل أو تلك الوظيفة الإيقاظية التي افترضها ميلان كونديرا وشدد على الوظيفة الأخلاقية للسخرية في قدرتها على تحريره من المُطلقات وترسيخ نظرة دنيوية للعالم وتضفي ذلك البريق الذي يكشف العالم في التباسه وتمنحه السخرية وقتئذٍ نشوة نسبية الأشياء. السخرية تمنحنا القدرة على رؤية الأشياء مجرّدة من مسلمات وتجعل العالم موضوع السخرية مرئياً لنا في ضوء علاقات نسبية غير قطعية. ينبثق الضحك -كما يعبّر- الناقد عبدالله إبراهيم "في ظاهر الأمر، من المُباينة، والمفارقة -أي من اللاتوافق- غير أنه، يهدف في باطنه إلى التوافق والانسجام" فالسخرية -بحسب إبراهيم- في إظهار الفوارق بين الأشياء يراد بها خلق الأُلفة، ومحو المغايرة التي ترسم تناقضاً لا سبيل إلى حلّه إلا بالضحك الذي يلغي التراتب بين الأحداث المتعارضة، فإشاعة السرور كافية بخلع المهابة عليها. ليس الجانب الاستظرافي هو الوحيد الذي رزئت به وسائل التواصل؛ وإنما تجاوز الأمر إلى العنف الرمزي الذي ينذر بفظاعات مرعبة تصل إلى حد الإيذاء والتعريض بالأشخاص والقذف وغيرها من مثالب وعيوب لا تليق بنا ككائنات إنسانية تعيش عصر الحضارة والمعلومة والصناعة الحديثة والعصرنة والتطور في شتى حقول العلم والمعرفة وصياغة الإنسان. مثل هذه الخطابات العنفية والتسطيحية ليست الروافع التي يؤمل منها مسايرة ومواكبة عصرنا التاريخي الذي يتطلّع لأخذ موقعه وريادته بين الأمم المتحضّرة. بالوعي والثقافة وصياغة الوجدان النقي السليم المؤمن بوطنه وفكره وإرثه وعلمه يمكننا قيادة العالم؛ لا بخطابات التسطيح وحملات التتفيه التي أتيحت لها منابر وسائل التواصل دونما تقييد أو ترشيد أو حتى توعية لأمثال هؤلاء المتباهين بجهلهم. نظام التفاهة أو عصر التفاهة الذي نظّر له وأفاض في شرحه والتحذير منه الفيلسوف الفرنسي المعاصر آلان دو؛ خليق بأن يتم تدارسه ووضع الحلول لمجابهته؛ إذ لم تعد التفاهة شأنأً محلياً أو إقليمياً؛ وإنما مرض عصري أثقل كاهل العالم بأسره؛ وكأننا إزاء تفاهة معولمة! في مقدمة كتاب نظام التفاهة الذي ترجمته د. مشاعل الهاجري ويدور حول فكرة محورية: نحن نعيش مرحلة تاريخية غير مسبوقة؛ تتعلق بسيادة نظام أدى تدريجياً إلى سيطرة التافهين؛ وعبر العالَم - تلفت المترجمة أننا نشهد صعوداً غريباً لقواعد تتّسم بالرداءة والانحطاط المعياريين: فتدهورت متطلبات الجودة العالية وغُيّب الأداء الرفيع، وهُمّشت منظومات القيم، وبرزت الأذواق المنحطّة وتسيّدت إثر ذلك شريحة كاملة من التافهين.