اقتحام الخصوصيات والتدسّس في زواياك ومفاجأة عزلتك من شرّ ما أنتجته وسائل التواصل الاجتماعي، وما ابتكرته الاتصالات الحديثة. لستُ الآن - وقد اندرجت في هذه المعامع - مالكًا لوقتي، ولا مضطجعًا كلما رغبت، ولا خارجًا كلما أردت، بل ربما لا أستطيع ممارسة حقي الطبيعي في الضحك والبكاء، ولا محافظًا على خصوصيتي إلا بقدر ضئيل يثبت هذا التغير ولا ينفيه. أتلك من ضرائب الرّفاه الذي أحدثَتْه في حياتنا؟ إنها إذاً لضرائب موجعة. لم أستعمل الجوال إلا بعد تسعة أعوام من ظهوره في مجتمعنا؛ رغبة عن الجديد الذي يتهالك عليه الناس، وكذلك فعلت مع التطبيقات التواصلية ك(تويتر) و(واتساب) وغيرهما، لشعوري بأنها سوف تستهلك عمري، أو قل ما بقي من عمري، وسوف تخرجني من عزلة جزئية محببة إليّ ما فتئتُ آطِرُ نفسي عليها منذ حين. وكان بعض الرفاق يسخر من اختياري (الأبله)، ويهزأ قائلًا: ما فعل الله بهاتفك (أبي هندل)؟ بل إنه جعلني مادّة لهجائه، فهجاني متوسّلًا بأبي هندل طيّب الذكْر، فأجبته بعد أن جرفني التيّار قائلًا (وهذا من شعر المباسطات الذي يُسامَر به حينًا، ثم يُنبَذ ولا يُؤخذ): تركتُ لغيري أبا هندلٍ ومتّعتُ نفسي بجوّالها وأرسلتُ رقمي إلى صُحبتي وشيخ الحواري وفوّالها وغانيةٍ هي قبل الجميعِ أبيتُ لجوّالها والِها ووطّنتُ أُذْنيَ أن تسمع ال كلامَ على كلّ ِأحوالِها فقومٌ أتتني أهازيجُهم ترفّ عليّ بمَوّالِها وجاءت فئامٌ بلغوِ الحديثِ فأقوالُها مثلُ أبوالِها فتبًّا لغِلْمةِ هذا الزمانِ تحوكُ الهباءَ بأموالها والحصيف يدرك أن (الجوالات) جعلتني (ألزم ما لا يلزم)! والله المستعان على ما تلزمنا إياه. أما السِّناب فلي عنه رغبة جامحة؛ لأنه أخبث ما اخترعه التقنيون؛ وخبثه ظاهر في إشهاره التافهين، وإسباغه نمطًا استهلاكيّا أرعنَ، وجشَعًا عجيبًا على مستعمليه المشهورين ومتابعيهم المبهورين، وكرَمًا غريبًا عند الطائفتين في إهدار الزمان! وجرأةً على لطمه وصفعه أعني الزمان الذي هو شيخ حكيم لا يجوز صفعه ولا لطمه، بل حقّه تقبيل الرأس وإفساح المجالس له. لقد أخرج هذا التطبيق (أي السِّناب) شياطين ماردة، كانت في قماقم العزلة الطيبة في الزمن الذي نسميه بسذاجة حسنة (زمنَ الطيبين). لا بدّ من الإقرار بأن هذا الزمن هو زمن التواصل القسري؛ ذلك لأننا لا نستطيع الانفكاك من حركة الحياة الحديثة، ولا سيما بعد أن طُوّرت سبل الخدمات الحكومية وغيرها، ودخل التواصل التقني في أدقّ تفاصيل حياتنا، فصارت هذه التقنية تضطرّك إلى أن تكون فيها وبها وعنها ولها ومنها وإليها، ولا يخرج من سلسلة حروف الجرّ في هذا المقام إلا (على)، فنحن لسنا (عليها)، بل هي التي أجلبت (علينا) و(مَرْمَطت) أوقاتنا. (وبالمناسبة فإن مَرْمَط لفظ دارج قد يكون مولّدًا من قولهم: مَرَط الشَّعْرَ ومرّطه، وهذا مفيد لأخينا الدكتور عبدالرزاق الصاعدي في مشروع الفوائت الظنّية). ومع ذلك فلي تجربة في الانقطاع عن هذا التواصل جيدة، إذ جعلتُ من سنتي الراشدة الحميدة أن أحذف كلّ التطبيقات، وأقطع صلتي بالنت كلما سافرت استجمامًا، وقد وجدتني أعود بشرًا سويّا، خارجًا من سلطان فمي، متحديّا شهوة الإخبار، متمرّدًا على سلطان أذني، راغبًا عن الاستخبار، محتقرًا رغبات الشهرة الزائفة، متسلطِنًا على نفسي الأمّارة بالاتصال والتواصل الفارغين المُفرِغَين غالبًا. إن من بعض ما جنته وسائل التواصل أن أفقدَتْنا أرواحنا البريئة المتطلّعة المتشوِّفة، نعم فقدنا لذة الإخبارِ والاستخبارِ، وتسقّطِ الأنباء، والسؤالِ عن الجديد، ولماذا نسأل اليوم عن الجديد، وهو يصفعنا كلّ دقيقة في جوالاتنا وأجهزتنا الأخرى، يأتينا دون استدعاء، ويطلّ علينا بلا مناداة، حتى سئمنا الجديد، وتطلّعنا إلى القديم، وهذا من أسباب ارتفاع نبرة الحنين إلى كلّ قديم (والقدَم في الأفهام ارتبط اليوم بزمن ما قبل التواصل)، وظهر بأثر ذلك مصطلح (زمن الطيبين)، ومن كانوا أكثر طيبة منا، ولكنه السأم من التطوّر التواصلي الذي جعلَنا أسلوبُ التعامل به نكره حياتنا الحاضرة. في زمن التواصل القسري قد تكون رجلًا معروق الوجه، أكلك الزمان وشربك، مغضّنَ الجبين تستلقي على مخدّتك، وتخلد إلى النوم هانئًا سعيدًا بأن مرّ يومك بلا منغّصات تواصلية، ولكنك إذْ تستيقظ في الصباح تفاجئك رسالة جوال طائشة: (تشقير حواجب وتنعيم بشرة.. اتصل..)! يا أللهُ، صباحَ خير.