القوة الخارقة هاجس رؤيا.. ونافذة أحلام ونداء مستحيل غالباً، لهذا ارتبط هاجس الإبداع في ذاكرتنا العربية بقوةٍ خارقة.. فكان قرين الشاعر في تاريخنا ماردًا يقف على لسانه يقول ما لا يستطيعه غيره حتى توهّمَ المؤرخون واديًا ينهل منه الشعراء قرناءهم "عبقر"، ولهذا كان "شيطان الشعر" حاضرًا في ثقافتنا وحسبنا أن نتذاكر (رسالة التوابع والزوابع) لابن شهيد الأندلسي ورحلته مع تابعه زهير بن نمير الأشجعي في وادي الجن، لندرك كيف نبني خيالاتنا على ما نحب أن يظنه عنا الآخرون، وإن لم يكن فينا، أو أن نصوغ من ظنونهم ما نحب أن نوثّقه معتمدين عليها، حيث قامت تلك الرسالة أو "الرواية الدرامية التاريخية" على رؤيا القرين في الشعر يطوّف بصاحبه على قرناء الشعراء قبله لينشدهم شعره، ويطارحهم شؤونه وشجونه الأدبية، وهي فنتازيا رؤيا لاتكون إلا على ركامٍ معرفي يستخدمها لاستقبال الإبداع وتبرير ما يراه أكثر من قدراته، والأكثر من هذا ما يحب أن يشي به بعض الرواة المتحمّسين لرؤيا القرين من الجن من أن أول مرثية شاعر لنفسه، ونعني بها يائية مالك بن الريب التميمي الشهيرة إنما كتبها تابعه من الجن، بينما كان ابن الريب يحتضر استناداً على ندرة شعره باستثناء قصيدته الشهيرة هذه التي دخل بها التاريخ. وكما كان زهير بن نمير قريناً لابن شهيد كما يحب أن يدّعي كان "كبيكج" وفي ذكرٍ آخر (كبيكلج) حارس الورق الذي يحفظه من الأرَضة في التدوين القديم.. فكم من المخطوطات تصدّرت بعبارة "احفظ الورق ياكُبيكج" وهو اسم (جني الورق) الذي تعارف عليه الورّاقون وتوهّموا بقدراته الخارقة في حفظ الورق من التلف.. تابع الشاعر أو كبيكلج كلاهما توالدا من رؤيا القوى الخارقة التي راودتها الأحلام، وصدّقها العجز أحياناً.. حتى ظاهرة التدفّق الكتابي عند بعض الرواة والكتاب القدماء كالسيوطي مثلاً حين يبدو تاريخه الحياتي زمنياً أقل من أن يستوعب إنتاجه كما رأى بعض مجايليه، مما دفع الصوفيين منهم إلى إحالة تلك القدرة إلى (طيّ الزمن) حيث يرون أن الله سبحانه وتعالى إنما طوى الزمن لأولئك العلماء والمبدعين، فمنحهم زمنًا أكثر من زمننا لينتجوا لنا كل هذا الكم الهائل من الأعمال الإبداعية.. رؤيا الإبداع إذًا قوة خارقة لم يجد القدماء غير الجن معينين عليها لهذا نسبوا كل ما يدركه غيرهم حين يقصرون عنه إليهم.. ومنحوهم الأسماء حدّ استحضارهم من الغيب والإيمان بهم من وراء إبداع، ومن يعلم ربما لو كان أحدهم بيننا الآن لرأى أن (كبيكلج) لن يقوم بما تقوم به شريحة ممغنطةٌ لا يتجاوز قطرها الملمتر.