نعم يارب الأرباب لكل أجل كتاب.. لا راد لقضائك ولا مقدر لأجلك، لقد قلت وقولك الحق: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ).. الموت هو أكثر ما يكدر الخواطر ويبعث على الأسى والحزن، ويخلق لدى كل منا أجواء من الشعور بالضعف والانكسار مع يقيننا التام أن الموت حق، وجميعنا إلى الله راجعون، مما يحتم على كل مسلم أن يتقبله على ما فيه من مرارة، وأن يؤمن إيماناً صادقاً بأن الموت لا مفر منه، وأن ما أمامنا إلا الدعاء للميت والصبر. ومما لاشك فيه أن من أصعب الأمور والمواقف على الإنسان فقدانه للغالي من أسرته وأقاربه ومعارفه وجيرانه، فكيف إذا كان الفقيد أو الفقيدة من أقرب الناس إليه وإلى زوجه وأولاده.. إنه لاشك بالغ الأثر في النفس، يظل يعتلج في القلب المفجوع بغاليه زمناً يطول مداه، فيتجدد كلما تذكره وجال بخاطره بعض من محاسنه ومواقفه الحنونة الطيبة. الخطب الجلل الذي أنا بصدد الحديث عنه هو وفاة جدة الأولاد والدة المهندس مساعد بن علي المبارك التي انتقلت إلى جوار ربها بعد معاناة طويلة وقاسية مع كثير من الأمراض.. لقد كان نبأ وفاتها نبأً مفجعاً وقاسياً نزل على معارفها ومحبيها بكثير من الأسى والحزن، بل كان نزولاً مفجعاً يطول مكثه بين الجوانح والقلب. لقد نشأت كريمة السجايا (حصة عبدالله المبارك) في بيت من بيوتات نجد العريقة، فلقد كان والدها أميراً على بلدة (حريملاء) المجاورة للعاصمة (الرياض)، وكان بيت إمارة مشهوداً له بالعلم والخير.. ثم انتقلت بعد زواجها من ابن عمها الأمير آنذاك علي بن حمد المبارك الذي عُين أميراً (لحريملاء) بعد وفاة والدها ثم أميراً لنجران العام 1373ه.. وبعد ذلك عين أميراً للزلفي ابتداءً من العام 1375ه حتى العام 1383ه وهو عام تقاعده - رحمه الله -. لقد كانت كريمة السجايا وأم المساكين نعم الزوج والأم، تعلمت القرآن وحفظت أجزاءً منه على كبر تتلوه آناء الليل وأطراف النهار إلى جانب حرصها على تعليم أولادها، والسهر عليهم بعد أن أقعد المرض والدهم الأمير.. فكانت نعم الأم حتى حقق الله لها ما أرادت، أما عن برّها بوالدتها منيرة بنت حمد الراشد شقيقة العالم الفاضل والإداري الحازم الشيخ ناصر بن حمد الراشد - رحمه الله - فكان مضرب مثل وحديث مجالس معارفها. كانت حصة بنت عبدالله المبارك امرأة صالحة لا تسمع منها إلا عذب الكلام، ولا ترى منها إلا حب الخير للآخرين، كانت تقضي - قبل أن تداهمها الأمراض - جُلّ أيام شهر رمضان المبارك معتمرة ومصلية في بيت الله الحرام، أحسبها كإحدى النساء اللاتي لا تجد ما تقوله عنها أكثر من أنها امرأة نقية تقية وصالحة جمعت بين الحسنيين في إرضاء الله أولاً ومن ثم إرضاء خلق الله بالخلق الحسن والكلمة الطيبة والمعاملة الكريمة، ولعل من جميل ما يذكر عنها أنها - رحمة الله عليها - وبالرغم من ثقل المرض عليها كانت ترفع سبابتها طوال الوقت ذاكرة لله ومتشهدة ومسبحة. وليُعلم أن جدة الأولاد - رحمها الله - أهدتني قبل أربعة عقود أصغر فلذات كبدها وزهرة عمرها أم أولادي تلك النبتة الصالحة التي أورقت في حياتي ظلالاً وثماراً يانعة من بنين وبنات أحسبهم - إن شاء الله - ثمرة صالحة وارفة الظلال أحسبهم كذلك، والله حسيبهم مما يحتم عليّ أن أكون ممتناً بل ومديناً لها - رحمها الله - طيلة ما بقيت على قيد الحياة. وليعلم القارئ الكريم أني حينما بدأت بالكتابة عنها لم أجد في سيرتها أي شهادة علمية أو منصباً وظيفياً يمكن أن أتحدث عنه.. ولكن وجدت ما هو أعظم من ذلك بكثير ألا وهو أنها - رحمها الله - كانت تمتلك الإيمان الراسخ والتقوى الصادقة والرؤية الثاقبة برسالتها السامية.. أماً حنوناً ومربية فاضلة، وقد ترجمت ذلك على أرض الواقع بشكل دقيق أثناء مسيرة حياتها الحافلة بالجد والاجتهاد والعطاء المتدفق. لقد كانت - رحمها الله - تتحلى بأخلاق عالية وسمو في الصفات وذات تعامل حسن نبيل.. تتمتع بخلق عالٍ ورفيع وصدر رحب مع القريب والبعيد محبة للخير والبذل والعطاء، وبصفة خاصة النساء اللائي يغشين دارها بين الفينة والأخرى، تمد لهن يد العون والمساعدة بأريحية وبلا مِنة. رحم الله كريمة السجايا أم الفقراء والمساكين التي انتقلت إلى الرفيق الأعلى، راجياً ممن طاله برها وجزيل عطائها وبذلها الدعاء لها بأصدق الدعوات وأخلص الابتهالات بأن ينزلها المولى سبحانه منازل الأبرار والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، وأن يجعل قبرها روضة من رياض الجنة، وأن يتقبلها القبول الحسن، وجميل عزائي لابنها البار المهندس (مساعد بن علي المبارك) وإلى شقيقتيه البارتين، وإلى شقيقها الأستاذ مبارك بن عبدالله المبارك الذي كان متأثراً أشد التأثر والحزن لفراق شقيقته الوحيدة، وعيناه تذرفان دموعاً حرى، وكذلك أحفادها وأسباطها وكل عائلة المبارك الكرام، بل كل محب لها بأن يجبر مصابه ويخلفهم خيراً.. إلى جنة الفردوس غير ذميمة برحمة من نرجوه للذنب غافر