كلنا ضيوف في هذه الدنيا مسافرون، مسافرون كمستظل في ظل شجرة، راحلون عاجلاً أم آجلاً في أجل مسمى وهكذا كان أسلافنا وهكذا سيكون أحفادنا. الموت حق وهو سبيل الماضين والغابرين ومورد الخلائق أجمعين ولنا في أنبياء الله وسالف أوليائه أفضل العبرة وأحسن الأسوة ولكل أمة أجل ولكل فرد أجل. قال تعالى: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاء لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} وقال أيضاً: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ}. هذه هي سنة الله في خلقه سنة لا تستثني أحداً وقد قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}. تزوجت سمو الأميرة سلطانة وهي صغيرة من ابن عمتها وقد تعلمت من مدرسة والدها الحكمة والوفاء، وبعد زواجها دخلت مدرسة عمتها حصة بنت أحمد السديري التي علمتها ما تعلمته من المعلم الكبير الملك عبدالعزيز من تحمل للمواطنين وتلبية احتياجهم بلا تذمر وأن يكون بيتها مفتوحاً للجميع وأن يجلس على سفرتها من أتى، فتعلمت منها الإدارة وتربية الأبناء وأن لا تغفل عنهم وأن تزرع فيهم الخير والدين والأخلاق والقيم والعمل بصمت لخدمة الوطن، فابنها سلطان أول رائد فضاء عربي وابنها عبدالعزيز ذلك الرجل الذي يعمل بصمت سواء بوزارة البترول أو في جمعية الأمير فهد بن سلمان الخيرية، وكذلك ابنها فيصل الذي استلم المجموعة السعودية بعد أخيه أحمد. ومن مدرسة زوجها تعلمت العدل والرحمة والصبر وضبط النفس فكانت صوت نساء بلدها ورعت الكثير من الجمعيات الخيرية والمدارس ولا ننسى اهتمامها بمدارس الرياض وكم رعت من حفل تخريج وكلنا يرى تلك المدرسة العملاقة التي تنافس أرقى مدارس العالم، أما أجمل ما قامت به جمعية عطائها المتواصل لكل محتاج ومريض ويتيم، تلك الجمعية التي لم تفصح عنها بالذات والعذر منك يا مسك الخزامى ويا قرة عين سلطانة ويا رياضنا فأنت الآن لنا الرياض فقد اكتسبت من والديها الكثير فقد نابت حصة عن والدتها بعد مرضها. لقد رحلت فقيدتنا الغالية البارة النقية التقية الأميرة سلطانة بنت تركي السديري رحمهما الله وإنا لفراقها لمحزونون رحلت تلبية لدعوة الله إليها لأن الرجوع أمر فرضه الله على خليقته وليس لنا إلا أن نقول لأميرتنا الكريمة ما قاله سبحانه وتعالى: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي}. لقد سافرت أميرتنا يرحمها الله ويغفر لها وهي تحمل زاداً من التقوى والخير إذ إنها ائتمرت بأمر الله في السر والعلن وآثرت رضا الله على هواها لم تكن مختالة ولا مكابرة تكاملت فيها المروءة كلها وأثبتت ذلك بالفعال الصالح وهكذا انتقلت إلى ملك عدل وحجتها معها. لقد رحلت من دار رحيلها إلى دار مقامها، من دار الفناء إلى دار البقاء ذهبت لتقابل ربها وهي تحمل قلبا ملأه الإيمان وعمره ذكر الله خرجت من الدنيا الفانية إلى الدنيا الباقية وهي مؤمنة بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر. لقد كانت أميرتنا المحبوبة سخية بالحق بخيلة عن الباطل ترضى حين الرضا وتسخط حين السخط رضاها من أجل الله وسخطها من أجل الله لم تكن عيابة ولا مداحة لقد كانت ذخرة الإيمان وقرة عين الإسلام ورمز الطهارة، رحلت أميرتنا ولم يسبقها إلى الخير الأولون ولم يدرك حبها لله الآخرون، ولقد اختارت الله والرسول وبذلك لم تكن امرأة أعظم بركة على قومها منها. لقد تسلحت بالحضور الإلهي في قلبها أخلصت لله في عملها وعلمها وفي كلامها وصمتها لم تعرف الغضب أو الحقد أو الإساءة إلى أحد قدمت المساعدة دون توخي المكافأة توحدت مع الفضيلة وذكر الله وحبه وحب الناس. كانت أميرتنا الفاضلة تنظر إلى الأمور بعين عقلها وبصيرتها استجابة لقناعتها المطلقة بالحضور الإلهي الذي عمر قلبها وبذلك أعطت لنفسها الفرصة إن شاء الله في الحصول على الجنة التي وعد الله بها المؤمنين. أميرتنا المحبوبة نصبت الخصال الحميدة وذكر الله داخل نفسها، وبذلك اجتذبت حب الله فأصبحت محبوبة الله وعباده ونظراً لقربي من محبوبتنا المرحومة أقول إنها جعلت نفسها ملتقية لدفق الحب الإلهي وأنها قد صقلت قلبها وطهرته بذكر الله وأنها امتلكت في داخلها ثروة روحية قوامها استذكار وتذكر وإقرار وعرفان، وبالتالي فقد عرفت الله وتوجهت إليه بقلبها وروحها وبصيرتها وقد أبعدت نفسها عن الجوانب الدنيوية وحصنت نفسها بذكر الله وابتعدت عن الأمور الفانية بهذه الدنيا وبذلك راكمت رصيداً من زاد الآخرة. غاليتنا الأميرة سلطانة رحمها الله قد أعطت الفرصة لعقلها وروحها فعملا معا لتوطيد إيمانها، فوصلت إلى مرتبة المؤمنة التي حسن إيمانها وأصبحت مستعدة للتضحية (بالأنا) بغية الحصول على الرضوان الإلهي، وقد صحبت أميرتنا عمرها بالتوحيد وعفرت وجهها بالسجود وزينت نفسها بالتواضع والحلم وكان أملها وهمها الوحيد إرضاء الله في السراء والضراء وفي السر والعلن، وكانت تنظر إلى ما بين يديها فيغشى بصر قلبها بصر عينيها وكأنها لم تنظر إلى الدنيا كما ينظر إليها الآخرون، ما أعجب شأنك يا أميرتنا المحبوبة بين أهل زمانك!. لقد أخذت أميرتنا من حياتها لموتها ونظرت إلى الدنيا على أنها حلم وأن الآخرة يقظة والموت متوسط.. وكانت تحاسب نفسها قبل أن تحاسب تعتبر فتبصر وتبصر فتفهم، وتعلم فتعمل وإذا غضبت أمسكت لم تركن للدنيا أبدا ولم تشغل قلبها بها، رحيمة على من حولها كلامها قليل وإن تكلمت فإنه الخير، أحبت العلم وتقوى الله بذلت المعروف بصمت، لم تكن تبخل بالعطاء قبل أن تسأل وحيثما نظرت إليها تجدها شاكرة لله دائماً. أميرتنا سلطانة رحمها الله جعلت التقوى عمارة قلبها وجلاء بصرها وأوكلت كل أمورها إلى الله والمشهور عن أميرتنا الحبيبة والمشهود لها بأنها كانت تصل من قطعها وتعطي من أساء إليها وتحسن إليه، ذات سريرة صالحة تعزي الثكلى وتحفظ الآخرين في غيبتهم وحضورهم وتضع الأشياء في مواضعها، وإذا رأت حقا أعانت عليه وإن رأت جورا ردته وكانت دائماً عونا بالحق على صاحبه وقد بسطت بكل خير يدها. سيرة أميرتنا الحبيبة تقول إنها كانت زاهدة عابدة ونعم الزهد زهدها وقد زينها الله بزينة الأبرار فجعلها لا ترزأ من الدنيا منها بشيء صبرت على النوائب لأنها آمنت بأن الصبر من الإيمان، وكانت إذا أدت الصلاة تصلي صلاة مودع وهي ترى ألا تصلي بعدها. كانت أميرتنا العزيزة محطة أمان لأولادها، وأدت رسالتها أحسن أداء إذ إنها زرعت صفاتها الأصيلة في أبنائها، وكانت على قناعة بأنها لم تخلق للدنيا وإنما خلقت للآخرة، وقد أخرجت من الدنيا قلبها قبل أن يخرج منها بدنها، وهذا إرث يعتز به أولادها وأحفادها، أصيبت بفقدان ولديها فهد ذلك الأمير الذي يحمل قيم الإنسانية والشهامة وابنها أحمد ذلك الأمير الذي يحمل مشعل الثقافة والإبداع، رحمهما الله فكانت مثالا حياً للمؤمنة الصابرة التي تؤمن بالقضاء والقدر، خيره وشره، فكان ردها أنها صبرت صبراً جميلاً ذلك الصبر الذي أمرنا الله به فكانت بذلك قدوة حسنة. لقد تخرج من مدرسة سيدي الوالد الأمير سلمان -حفظه الله- ومن مدرسة سيدتي الأميرة سلطانة -رحمة الله عليها- صاحب السمو الملكي الأمير عبدالعزيز الذي يعمل بصمت في جمعية الأمير فهد للكلى فيقدم المساعدة دون منة ويجبر خواطر المرضى المصابين بهذا المرض بنفس طيبة وأريحية لا حدود لها وهو يعتبر ذلك أنه واجب ديني وأخلاقي وإنساني يؤديه لبلده وإخوته وقد أصبح بذلك عنوانا للإخلاص في عمله ومحبة الآخرين. وأذكر بكل فخر واعتزاز أيضا حبيبتي صاحبة السمو الملكي الأميرة حصة تلك الياقوتة الثمينة التي تحمل قلب الإنسانية وبراءة الطفولة، المعروفة بالصدق والوفاء والإيمان وهي التي تعتبر حلقة مباركة في الأسرة الكريمة، التي تميزت بكل صفات الكمال، تلك الصفات التي رضعتها من الوالدة وفازت بها بتفوق كبير ما أكبرها في ثقافتها وما أعظمها في سداد رأيها! فهي تحكم عقلها وضميرها في كل تصرفاتها، أميرتنا حصة شابة مثقفة حسنة النية نقية الطوية متسامحة متواضعة ذات يد بيضاء وحانية لا تحمل ضغينة لأحد عطوفة معطاءة نشيطه في مجالات الخير العديدة، طيبة القلب وعندما تكلف بمهمة ما تقوم بتأديتها على الوجه الأكمل، حنونة صادقة وكل من عرفها يشهد لها بالوفاء والكرم، تتمتع بذكاء يؤهلها لأن تتعامل مع الآخرين بلباقة، تشعر جليسها برحابة صدرها وقدرتها على الحوار والاستماع باهتمام لمحدثها، إدارية بكل معنى الكلمة وهي الآن تتحمل أعباء لا حصر لها. كيف لا وقد تصدت للمهام الصعبة فهذه سيدة عمياء وأخرى ترغب بالدخول للمستشفى وتلك ترغب بالأرزاق، وأخرى ترغب بسداد إيجارها وتلك ترغب بسداد فاتورة، وتلك ترغب بعلاج سريع بسبب مرض عضال، أميرة الرياض تقوم بكل مهام والدتها في تلك الجمعية التي لا يعرفها إلا الله وعندما تطلب مني استشارة لأمر ما أنصحها بالعودة إلى والدها وهنا دمعت عيناها ومشت بي إلى فيلا بيضاء مضاء بها فقط مكتب وهناك رجل وسيم منكب على الأوراق يعمل بجد فقالت لي هذا والدي، صرت أخشى عليه من كثرة العمل وبقلبه حزن دائم يخفيه من فقد والدة فهد وأحمد وهناك طلبت مني مساعدتها أن أنقل لها بأمانة ما يحصل معهم وإنها في السابق اعتمدت على كثيرين ولم تصلها المعلومات عنهم، واعتبرت الأمر سهلاً ولم أعلم صعوبة المهمة. فقد الأحبة غربة مريرة، وخاصة إذا كانت الفقيدة بمقام وقامة سيدتي الأميرة سلطانة إننا أيتام بعدك يا سيدتي، نعم رحيلك عنا رغبة لنا نقلتنا تلك الغربة من الرخاء إلى الشقاء ولكن أمام قدر الله المحتوم لا يسعنا إلا أن نقول لحبيبتنا: (أنتم السابقون ونحن اللاحقون) علما أن عمر غاليتنا الزمني في هذه الدنيا هو الذي انتهى هناك عمر آخر لسيدتي وهو عمر رافقها في حياتها وسيبقى إن شاء الله رمزا ونبراسا تتوارثه الأجيال، جيل بعد جيل، وهو الذكر الجميل الطيب الذي يخلد صاحبه ويبقي ذكره العطر على مر الليالي وهذا فضل من الله يعطيه لمن يحب ولمن يشاء. وإن كنا نودع أميرتنا ووالدتنا الحبيبة فإنا نقول لها: نعم الروح روح ضمه بدنك ولنعم البدن بدن ضمه كفنك، لقد غذتك أكف الحق وربيت في حجر الإسلام، فطبت حية وطبت ميتة وإن كانت أنفسنا غير طيبة لفراقك نسأل الله أن ينضر وجهك وأن يشكر لك سعيك ويكفيك أنك أدبرت عن الدنيا وأقبلت على الآخرة لقد أجبت رباً دعاك وناداك وإنا إلى جبريل ننعاك ونسأل الله أن يجعل الجنة مأواك وأن يكرمك ويشرفك بغفرانه وأن يسقيك برد وجميل عفوه، قلوبنا حزينة عليك ونفوسنا مصابة بفراقك يا غالية، لن تهب الصبا إلا وذكرناك ولن يبرد الحزن في أفئدتنا عليك ولو أن الدنيا بنيت على نسيان الأحبة ما نسيناك يا والدتنا الحبيبة. اللهم اجعل قبرها خير بيت تعمره واجعل ما بعده خيراً لها منه وأسكنها جنات نعيمك واحفظها من أي كرب بعد اليوم اللهم اجعل وفاتها نجاة مما تكره واجعل حسابها زيادة لها مما تحب ونسألك يا رب العالمين أن تغمدها بواسع رحمتك ورضوانك ومغفرتك. وخير ما أختم به قول الله عز وجل: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.