عندما صدرت ملحمة "على بساط الريح" في العام 1930 بُعيد رحيل صاحبها الشاعر اللبناني المهجري فوزي المعلوف 1899 - 1930 بدت أشبه بالحدث الشعري ورحب بها النقاد أيما ترحاب وكان لها وقعها الخاص في المقلب الثاني من عصر النهضة الشعرية. وكان طه حسين من أشد المتحمسين لها كما يعترف في مقالة له ضمها لاحقاً كتابه"حديث الأربعاء" وكتب فيها يقول: "لا أعرف اني تأثرت بشاعر كما تأثرت بهذا الشاعر الشاب، حين قرأت قصيدته "على بساط الريح" فاهتزت لها نفسي اهتزازاً، وما أرى إلا أني سأقرأها وسأجد في قراءتها هذه اللذة المرّة التي يحبها الأديب حين يقرأ الشعر الجيد الرائع الجميل". قد تكون شهادة طه حسين هذه خير دليل على الأثر الذي تركته ملحمة "على بساط الريح" في الشعر النهضوي، نظراً الى فرادتها أو الى "حداثتها" في تلك المرحلة التي كانت تشهد حالاً من التأرجح بين التقليد والتجديد. إلا أن هذه "الملحمة" لم تلبث أن توارت ليبقى منها صدى يترجّع في كتب النقد والتاريخ الأدبي. فأعمال هذا الشاعر التي نفدت منذ أواسط القرن المنصرم لم يُعد طبعها مما جعلها عرضة للنسيان وجعل شاعرها حاضراً باسمه فقط لا بآثاره. في الذكرى الخامسة والسبعين لرحيل فوزي المعلوف "شاعر الطيارة" التي تصادف هذا العام أصدرت دار" نوفل" أعماله الكاملة وقد ضمّت كل ما كتب من شعر لا سيما ملحمته الشهيرة "على بساط الريح" إضافة الى "ملحمة" أخرى لم يتسنّ له أن يكملها بعدما فاجأه الموت في مقتبل الثلاثين وعنوانها "شعلة العذاب". ومن يقرأ "الأعمال الكاملة، يلتمس فعلاً أن تلك "الملحمة" هي ذروة نتاج فوزي المعلوف وتعقبها قصائد عدة متفرقة لا تقل عنها رونقاً وسلاسة ومنها أناشيد "شعلة العذاب" التي تنحو منحى "الملحمة" الأولى. وقد كتب الشاعر قصائد وطنية عدة وقصائد وجدانية وغزلية، علاوة على قصائد المناسبات. ووضع كذلك مسرحية مأسوية عنوانها "ابن حامد أو سقوط غرناطة" جامعاً فيها بين النثر والشعر في طريقة لافتة. ولئن قضى فوزي المعلوف شاباً مثله مثل أبو القاسم الشابي الذي جايله فهو تمكن من تأسيس "مشروع" شعري حكم عليه القدر في أن يظل مشروعاً غير مكتمل، على رغم النضج الذي بلغته لغة الشاعر وأدواته. وقد أفاد كثيراً على مستوى العروض من الشعر الأندلسي ونسج الكثير من القصائد على منواله الايقاعي المتنوع أوزاناً وقوافي. وأخذ عنه رقة الحواشي وسلاسة الديباجة ومرونة التعبير. وقد سمّى بعض قصائده ب"الموشحات الجديدة" تيمناً بفن التوشيح الأندلسي. أما مشروعه الشعري فيتجلى في النزعة "الرؤيوية" التي تميزت بها قصيدته "على بساط الريح" والقصيدة الاخرى التي لم تكتمل شعلة العذاب وهذه النزعة جعلته يقترب من أن يكون شاعراً ميتافيزيقياً ولكن بعيداً من مضارب الفلسفة والثقافة الفلسفية. فالمواقف التأملية لديه ناجمة عن حال فطرية طُبع عليها وهي تظل أسيرة البداهة التي تختزنها النفس الانسانية في سيرورتها. لكن هذه البداهة لا تعني أن الشاعر لم يسع الى التثقف والتزود بما سمح له عمره القصير ان يتزود به. فهو قرأ على ما يبدو أبا العلاء المعري وتأثر به شديد التأثر، عطفاً على قراءته الشعر الرومانطيقي وسواه. فالطابع التشاؤمي الذي وسم معظم شعره يستحضر أثر شاعر المعرّة الذي يذكره في إحدى قصائده معارضاً قصيدته الشهيرة "تعب كلها الحياة" ويضيف المعلوف قائلاً: "وهذا كل ما قال فيلسوف المعرّة". إلا ان فوزي المعلوف اكتشف التشاؤم باكراً أيام كان تلميذاً كما توحي به بعض كتاباته النثرية الأولى كأن يقول: "خلقت في أيار، في حضن الربيع... منقبض النفس، مقطّب الجبين". ويقول في مقطوعة أخرى: "أجنح الى العزلة... تتكاثف السويداء في أفكاري، فأبعد عن المجتمعات. لا أحب أسر حريتي". ولعل هذا الاحساس الكئيب بالحياة سيدفعه لاحقاً ليصبح شاعر "مأساة الوجود" أو "شاعر الشباب المتألم" كما سمّي، وستفيض قصائده حزناً وكآبة ويأساً. إلا ان السؤال الذي يخالج قارئ "على بساط الريح" هو: هل هذه القصيدة الطويلة والمؤلفة من أربعة عشر نشيداً هي ملحمة حقاً؟ طه حسين لم يسمّها ملحمة ? مثلما فعل الشاعر نفسه ومعظم النقاد ومؤرخي الأدب ? بل سماها قصيدة ملؤها "الاجادة والاتقان" و"الروح الحلو القوي الوادع الذي تكوّن من جمال الشعر والموسيقى". وإذا قورنت هذه القصيدة بأي ملحمة فهي ستبدو خلواً من أي عنصر من العناصر الملحمية. وقد سعى بعض النقاد الى مقارنتها ببعض الملاحم الصغيرة التي دأب على كتابتها شعراء مثل فيكتور هوغو وملتون. لكن هذه المقارنة لن تكون لمصلحة فوزي المعلوف. فقصيدته هذه لا تحمل من الملحمة إلا توزّعها في مجموعة أناشيد، وهي أناشيد قصيرة جداً. أما المعايير الملحمية الرئيسة والمعروفة تاريخياً فهي تفتقد اليها كل الافتقاد ومنها السرد والوصف والفعل الدرامي وسواها. إنها قصيدة طويلة ذات "هاجس" ملحمي، إن أمكن التعبير، وإلا فمن الممكن قراءتها على انها قصيدة عادية وزعها الشاعر في مقاطع، خصوصاً ان النفس الشعري الذي يهيمن عليها هو واحد وكذلك الجو واللغة الشديدة السلاسة والدفق والانسياب. لكنها قصيدة جميلة حتماً وفريدة وسبّاقة في خوضها الصراع الأبدي الذي عرفته النفس البشرية بين المثال والواقع. لكن هذا الصراع سيتحول في القصيدة صراعاً بين روح الشاعر أو روح الشعر والجسد أو التراب. فالفضاء الذي عبر الشاعر "عبابه" هو "موطن" الشاعر المحلّق "بروحه لا بجسمه" كما يعبّر المعلوف في مطلع القصيدة. ثم يمضي في مديح هذه الطبيعة "الضبابية" و"الروحية" التي تجعل الشاعر "ملكاً" قصره "قبة السماء" و"قلب الأثير مسرح حكمه". انه الملك الذي يقضي ب"أمر الخيال"والذي يعيش في "عالم بعيد" تقرّبه اليه "عروس شعره". ولعلها روح الشعراء ترفعهم "على الهواء" وتبعدهم عن عالم الاحياء، هذه الروح التي تصنعها "ذرّات أضاءت في الكون". لكن الشاعر لن يتوانى، حين يعود أدراجه، عن اكتشاف غربته في الأرض وغربته عن ابناء جنسه. ولا يتمالك أيضاً عن عيش الصراع المرير بين روحه الحرة وجسمه "الأسير" كما يقول: "أنا في الأرض وهي فوق الأثير/ أنا عبد/ وهي حرة". ويدرك بمرارة أن كل ما فيه "أعمى ومنقاد" ما عدا روحه التي "فك الشعر جناحيها فطارت في الجو...". تخفي نزعة فوزي المعلوف شعوراً عدمياً طفيفاً يحسه بروحه أكثر مما يعيش بعقله، شعور شبيه بما يخالج الشاعر عادة من لواعج وآلام وقلق ويأس، ولا سيما عندما تخيب أحلامه وتتلاشى "حلماً فحلماً الى اللاشيء" وهي كانت غمرته ب"الشفق الوردي". انه الشاعر بامتياز، ذاك الذي "ألف قلبه اليأس" والذي "ضاعت نفسه وهي تنشد المستحيل" والذي "تحدو بذاته نزعات نحو العدم". لعل هذا الطابع التشاؤمي هو الذي ميّز فوزي المعلوف عن شعراء جيله الذين احدثوا ثورة في الشعر التقليدي ساد مطلع القرن المنصرم. وجعله هذا الاحساس المتشائم بل والعدمي بالحياة يبتعد قليلاً عن رومنطيقية علي محمود طه وأحمد زكي أبو شادي والياس أبو شبكة وسواهم من غير ان ينقطع عنهم في ما قاموا به من تجديد في الافق الشعري، لغة وأسلوباً ورؤية... وهذا التشاؤم الذي لن يتفاقم ليصبح "نيتشوياً" سيشمل الانسان بصفته كائناً ثنائياً موزعاً بين نزعتين: الشر والخير. لكن الشاعر سيأخذ على الانسان إيغاله في الشر و"دوسه" الضمير وتخريبه الأرض وتحويلها جحيماً. ويرى ان الانسان لم يُدعَ انساناً من إنسه وإنما من نسيانه وأصله من التراب ومصيره الى التراب... وإزاء هذا المصير البائس والقدر المأسوي ليس من "كفّارة" سوى الألم، الألم الذي يعيشه الشاعر في روحه، والذي يلتظي به قلبه، كما يعبر المعلوف، الألم القادر وحده على تطهير "ما دنسته شهوة حسّه". إنها طهارة الألم مثلما تجلّت لدى الشاعر الفرنسي شارل بودلير، تجعل الشاعر أيضاً يعيش "بضعاً من الدقائق" تمر في "خضم من الخلود"، لكنها "مثل الاحلام" سرعان ما تمضي وكأنها لم تكن. يرسم فوزي المعلوف في قصيدته هذه ما يشبه "البورتريه" للشاعر الذي تمثله في شخص بل للشاعر كما ينبغي أن يكون، في صراعه الدائم والمستميت بين بشريته و روحانيته، بين أناه المحدودة والضيقة وذاته الرحبة، بين جسمه الأسير وروحه الحرة. انه الشاعر الذي تغسل عينه بما تسكب من "ندى الدمع" كل ما اعتراه من أدران، الشاعر الذي ليس "عمره غير قطرة حبر" تومض من "يراعه". وفي قصيدة جميلة عنوانها "الشاعر المنتحر" يخاطب المعلوف شاعراً أقدم على الانتحار في مقتبل العمر وكأنه يخاطب نفسه هو الذي سيموت في مقتبل عمره: "مائت أنت؟ ما دهاك؟ لماذا متّ والعمر في أوان افتراره؟". ثم يسأله وكأنه يسأل نفسه إن كانت الروح هي التي تخطت حدود الألم أم انه الجسد ضاق بالروح الحرة. لكنه لن يلبث أن يقول له" "لست ميتاً بل أنت حي" وهذه الحياة في نظره، هي التي يكفلها الشعر. تتوزع شعر فوزي المعلوف في معظمه افكار تلتمع التماعاً، وحكم ولو كانت متشائمة، وأقوال وتأملات عابرة تنمّ جميعاً عن نزعته الميتافيزيقية التي ترافقت مع نزعة تشاؤمية وشبه عدمية. وقد يبدو بعض هذه الأفكار أو الحكم والاقوال اقرب الى البديهيات التي يدركها الانسان من تلقائه أو عبر احساسه الفطري كأن يقول المعلوف: "ووجود الانسان في الكون سر..." أو كأن يسأل على طريقة ايليا أبو ماضي في "الطلاسم": "كيف جئنا الدنيا؟ ومن أين جئنا؟/ والى أي عالم سوف نفضي؟" ثم يضيف: "هل جئنا قبل الوجود؟ وهل نبعث بعد الردى" وفي أي أرض؟". مثل هذه الاسئلة ? التساؤلات يطرحها أي انسان يلتفت الى ذاته ويتأمل في وجوده. لكن الشاعر يسوقها في خضم تجربة داخلية عميقة ملؤها الألم واليأس والكآبة. وعلى غرار أبي العلاء ا لمعري يرى ان "القبر راحة الجسم من آلامه" و"راحة الفؤاد من أكداره" وأن نصيب الانسان من هذا الوجود "مصائبه" و"داء" يقاسيه، وأن "العيش صفقة خاسر"... ويتغنى ب"نعمة" الموت لكن عزاءه ? على خلاف أبي العلاء ، أن روحه كشاعر "فوق الموت تمشي". انها روح الشاعر المحلقة أبداً في عالم من أثير، حرّة ومتحررة من أسر التراب. يحتل فوزي المعلوف موقعاً خاصاً في حركة الشعر النهضوي على رغم عمره القصير، فهو خرج من المحاكاة الى الابتكار وتميز بصنيع شعري فريد استطاع ان يوفق فيه بين عمق التجربة وحداثة التبعير. فالموقف التأملي لديه ، أو الميتافيزيقي ، لم يثقل لغته ولم يحل دون تجلي جمالية هذه اللغة في طلاوتها وسلاستها. وقد ابتعد الشاعر عن التصنع والكلفة وتحاشى الألفاظ الغريبة والنافرة واعتمد التنويع في الأوزان والقوافي مستفيداً من الموشحات الأندلسية كما تمت الاشارة سابقاً. وإذا بدا شعره غاية في البساطة فهو يبدو أيضاً على قدر الصنعة، مع نقاوة في الصقل ومرونة في التعبير، وسلاسة في الدفق والانسياب. ولا غرابة أن يميل شعره الى بعض التجريد تبعاً لما يحمل من أفكار وتأملات لكنه لا يقع لحظة في الجفاف الذي يصيب عادة الشعر الفلسفي. فالموسيقى الشعرية والطلاوة اللفظية قادرتان فعلاً على ابعاده عن مثل هذا الجفاف، ناهيك ب"الروح الحلو القوي الوادع"، بحسب قول طه حسين، الذي يرين على قصائده. غاب فوزي المعلوف باكراً ولو تسنى له المزيد من العمر لأبدع المزيد من الشعر ولتمكّن من ترسيخ مشروعه الذي تبدو معالمه واضحة تمام الوضوح، لغة وموقفاً، أسلوباً ورؤية. وقصيدته الطويلة "على بساط الريح" هي من اللبنات الرئيسة في ما يسمى الأدب "الرؤيوي" الذي تجلى مع جبران وبعض الشعراء الرومنطيقيين وبعض شعراء الحداثة لاحقاً.