لماذا يغيب الناقد الأكاديمي عن المشهد الثقافي والإعلامي؟ وأين دوره النقدي في عمل إبداعي ما؟ سؤال يزداد إلحاحا وأهمية اليوم ونحن نشهد حراكا ثقافيا وإنتاجا أدبيا غزيرا واهتماما مؤسسيا ورسميا بالإبداع والمبدعين، ممن لا يستحقون أن تبقى أعمالهم الأدبية يتيمة النقد، وهنا لا نعني مطالبة الناقد الأكاديمي بمتابعة ورصد يومي أو دوري لكل ما يصدر وينشر، ولكن على «الأقل» كما يقال ألا تخفت أضواء النقد داخله، فيصمت صمتا تاما، ويتجاوز عن أعمال ونصوص إبداعية وصلت إليه، خاصة إن كانت من طلابه. والأكثر أسفا هو أن يكون هناك تقصير في اطلاعه وقراءته عن الجديد من النظريات والأطروحات النقدية الحديثة والفعاليات والمؤتمرات التي يُدعى إليها كعضو هيئة تدريس. «الرياض» عرضت هذه التساؤلات على عدد من المثقفين والأكاديميين."صناعة الإبداع" عائشة: الانشغال بالمهمات العلمية وقالت الدكتورة عائشة – أستاذ مساعد بجامعة تبوك، ناقدة أدبية وقاصة وباحثة "هذا سؤال مؤلم على الأقل بالنسبة لشخصي، بالفعل الغياب قديم جديد ومتواصل للناقد الأكاديمي؛ لأنني أعترف بتقصيري في هذه المهمة الممتعة المتعبة؛ إذ إن مشاركات الناقد الأكاديمي خارج أسوار الجامعة تكاد تكون محدودة وتقتصر على الذين لديهم تواصل إعلامي ودافعية نحو الإعلام والانتشار المعرفي وتنوع الإرسال لثقافته، والذين جربوا المشاركة في المشهد الثقافي معظمهم يتواصل ويمضي قدما لوجود مغريات في الفعاليات والميادين الثقافية خارج منطقة الجامعة "معنوية" على الأقل، وكثير من الأكاديميين أكفاء ولديهم علم وعمق معرفي مميز، لكن يرون أن بذله على الورق أفضل، والانشغال بالتحصيل مع ذاته هو الأهم. كما عزت هذا الغياب لأن بعض النقاد الأكاديميين يرى أن المشاركات في الفعاليات تشغله عن مهماته العملية والعلمية. وليس من ورائها طائل وهم - كما أرى - على حق، فمتابعة الفعاليات والاهتمام بالمشاركة فيها تحتاج إلى الوقت الطويل. والأستاذ الجامعي مكبل بأعمال أكاديمية عديدة وأعمال جودة حتى إنها لكثرتها تكاد تضعف دوره مع طلابه. وأضافت أن المشهد الثقافي الداخلي والخارجي يحتاج إلى الاهتمام بالناقد؛ إذ من خلال دعوته إلى المشاركات في الندوات والمؤتمرات يثري ثقافته، ويسوق لقلمه، ويعرف بمستوى ثقافة بلاده، ويسهم في الارتقاء بالإنتاج الأدبي وتقييمه، والمشاركة في الابتكارات في صناعة الكتابة والإبداع، كما أن دوره في المشهد الثقافي مهم للغاية، ولا يقتصر على الأدباء والكتاب، بل الأخذ بأيدي أقلام الشباب، والإسهام في تقييم الإصدارات ومسارات الإنتاج الأدبي واتجاهاته. مؤكدة أن المشهد الثقافي يتسع ويتدفق مع تدفق وسائل التطور، ولذلك يحتاج التسارع والتدفق إلى النقاد الجادين الذين يستشعرون مسؤولياتهم ومواكبة المستجدات واحتواء الإصدارات بالدراسة والفحص والتقييم، حتى لا يخلط الحابل بالنابل، والناقد دوره مهم للغاية إذ دراساته تعد جواز سفر لكل إصدار وتقييم لكل نتاج. فيما ترى د. عائشة أن الناقد الأكاديمي إذا لم يصنع أدباء جددا يظلم نفسه وأدب بلاده، ويقصر في خدمة أمته، وليس معنى ذلك صناعة أديب بالتعليم فقط، بل المسألة أكبر من ذلك، صناعة الأديب الجديد تتأثر بكل شيء في أستاذه المحسوس وغير المحسوس، ومن هنا تشدد الحكمي على أن من أهم واجباته تلمس مواهب الشباب، والأخذ بأيديهم نحو طموحاتهم وفتح الآفاق الثقافية أمامهم ومتابعتهم ودعمهم والتواصل معهم بكل السبل تدريبا وقراءة وتوجيهات، على اعتبار أنهم امتداد له، وتأسيس جيل جديد يتولى المسؤولية، وكم هو جميل أن تجد مبدعا يوما ما يقول كنت سبباً فيما وصلت إليه، وكذلك كم هو مبهج حين يقول مثقف: أستاذي كان له الفضل علي في كذا وكذا. مؤكدة أن الشباب متعطش للاحتواء والأخذ من وقت وخبرة واهتمام الأساتذة، لكنهم - الأساتذة - مرهقون بانشغالاتهم العلمية والعملية والحياتية، ومع الأسف يستهلك الأساتذة المبدعون في الحياة بكل صورها وتضيع الفائدة من استثماره. "القيمة النقدية" وعن السؤال ذاته، أجاب د. صالح زيّاد - أستاذ النقد الأدبي بجامعة الملك سعود - بقوله: علينا أن نتحقق أولاً من مستند ملاحظتنا في شأن غياب الناقد الأكاديمي عن المشهد الثقافي والإعلامي؛ ذلك أن وجود هذه الملاحظة لا ينبع من فراغ؛ فهو ناتج الإحساس بفقدان دوره أو تضاؤله، مضيفاً أن المسألة تحوجنا إلى التمييز بين عدد من الوجوه والمواصفات في حق الناقد الأكاديمي من جهة، وفي طبيعة الجهد المطلوب وهو متابعة المشهد الثقافي من جهة أخرى. موضحاً أن النقد الأكاديمي يتوزع بطبيعته إلى اختصاصات مختلفة واهتمامات شتى، والنقاد الذين تستهلكهم الدراسات المتعلقة بالأدب القديم، أو تأخذهم مشروعاتهم المنهجية إلى البحث عن متون إبداعية خارج سياق لحظتنا الثقافية المحلية، وهؤلاء يمكن أن يندرجوا في الصنف الذي يلاحظ غيابه. أما من جهة الجهد الذي تتجه الملاحظة إلى قياس غياب الأكاديميين من جهته، وهو متابعة المشهد الثقافي، فلنتفق على أن رصد الغياب في هذا الشأن يتجه – أكثر ما يتجه - إلى ما تنشره الصفحات الثقافية، في الصحف اليومية، والمواقع الثقافية على الشبكة، ذلك أن عديدا مما يُطبَع للأكاديميين، من الكتب، والأبحاث المنشورة في الدوريات الأكاديمية المحكّمة، وكثيراً مما يُقدَّم من مناشط الجمعيات والوحدات الجامعية المتعلقة بالسرد والشعر والنقد، وموضوعات عديد من الرسائل الجامعية، يشتغل على متون من الأدب المحلي في أجناسه المختلفة. مؤكداً أن متابعة المشهد الثقافي إعلامياً بنشر مقالات نقدية وعروض وتحليلات، للأعمال الإبداعية المنشورة، منشط لا غنى عنه لتحريك المشهد واستنهاضه وإضاءة جوانبه وإبراز قممه. ولهذا الفعل خصائص ومواصفات لا تصلح لها الأكاديمية فيبطئها وترويها وحذرها ورغبتها في التعمق وقيودها المنهجية. والأكاديميون الذين يخوضون غمار هذه المتابعات على قلتهم، يخرجون من عباءة الأكاديمية الثقيلة، ويتمتعون بمواهب إعلامية وصحافية تميزهم. لكن المؤلم الآن أن مشهدنا الثقافي يفتقر إلى كثرتهم، وهذه نتيجة لتحولات المشهد بعد انتشار مواقع الشبكة، وتضاؤل الإقبال على النشر في الصحف، وقصور همة النشاط الصحافي إجمالاً في الاهتداء إلى ما يمكن أن يخلق جواً صحافياً متناسباً مع مناخ التواصل الإلكتروني الأحدث، وقادراً على بعث جاذبية وصدقية وثقة نقدية في نشاطه. فإذا لم نستطع أن نمتلك ثقة الفاعلين في المشهد من حيث القدرة على التمييز والاصطفاء، ومن حيث جدارة المتابعة وقيمتها النقدية، فسيبقى المشهد دون حيوية. "الواقع والمأمول" فيما يرى الأستاذ المشارك في قسم الأدب بكلية اللغة العربية جامعة الإمام د.خالد الدخيل، أن هناك إشكالا في تقييم حضور الناقد الأكاديمي في المشهد الثقافي، وقال إننا عندما نقدم حكما مثل هذا الحكم لا بد من إثباته هذا بالدلائل من خلال الأرقام والإحصاء، فإذا كان الناقد الأكاديمي غائبا عن المشهد الثقافي، فما مقدار غيابه؟ ومن الذي حضر في المشهد الثقافي بديلا عنه؟ مضيفا أكاد أجزم بأن الأكاديميين لهم حضور واضح في المشهد الثقافي السعودي، سواء كان ذلك من خلال الإعلام أو من خلال المؤلفات التي تنتشر لهم في المكتبات العربية والمحلية، ولكن السؤال الذي ينبغي أن يطرح - من وجهة نظري - هو: هل حضور الناقد الأكاديمي في المشهد الثقافي المحلي كافيا؟ والحق أن الناقد الأكاديمي لم يحضر الحضور المأمول منه ليسهم في رفع المستوى الإبداعي في المشهد الثقافي المحلي والعربي، وهناك أسباب كثيرة أدت إلى انزواء الناقد الأكاديمي في المؤسسة الأكاديمية التعليمية، منها كثرة المتطلبات الموضوعة على كاهل الأستاذ الجامعي، ما يجعله منشغلا في عمله الأكاديمي المحض من تدريس وأبحاث علمية، ومنها عدم الرغبة في الظهور الإعلامي لدى كثير من الأساتذة الجامعيين، وغيرها من الأسباب التي قد تضعف من حضور الأستاذ الجامعي في المشهد الثقافي. ومن هنا يرى الدخيل أننا نحتاج دراسة دقيقة تبين مدى حضور المؤسسة الأكاديمية من خلال أعضائها في المشهد الثقافي، ومن ثم تقييم الإسهام في هذا المشهد، والحكم على الحضور أو الغياب سلبا أو إيجابا. "مخرجات التعليم" فيما أضافت أستاذ الأدب والنقد الحديث المساعد بجامعة الملك سعود د. نورة سعيد القحطاني بقولها: من يتابع المشهد الأدبي والنقدي في السعودية يجد تراكمًا غزيرًا في الإنتاج السردي والشعري معا، لكن لا تواكبه في المقابل دراسات نقدية تتناول هذه النصوص. نورة: الفجوة مع الأدباء كبيرة ومع ذلك، فإن القول بغياب الناقد الأكاديمي عن المشهد الثقافي يحتاج إلى مراجعة دقيقة في ظل ما ينشر من دراسات نقدية لنقاد أكاديميين سعوديين يعالجون في دراساتهم كثيرا من النصوص الأدبية السعودية. والأكاديمي من خلال ممارسته اليومية للنقد تدريسا وتدريبا لطلابه يتناول هذه النصوص بشكل أو بآخر، ولكنه قد يميل إلى اختيار بعض النصوص دون غيرها لمناسبتها لدراسة ظاهرة نقدية محددة وليس تجاوزا أو تجاهلا متعمدا كما يظن البعض. وللناقد الحرية في اختيار النصوص التي تساعده على إثبات نظرية ما أو تتبع قضية سردية أو شعرية تنهض عليها إجراءات الدراسة ونتائجها. في حين لا تتفق مع من يجزم بتقصير الأكاديمي في القراءة والاطلاع على كل ما يستجد من نظريات أو دراسات في مجال تخصصه، وإن وجدوا فهم قلة؛ لأن العمل الأكاديمي يتطلب الإلمام بكل جديد كجزء من التطوير وتجويد البحث العلمي ومخرجات التعليم. كما يحرص كثير من النقاد الأكاديميين على المشاركة في المؤتمرات الثقافية المختلفة رغم صعوبة ذلك أحيانا لضعف الدعم من الجامعات والأقسام الأكاديمية. وعلى سبيل المثال، مؤتمر النقد الأدبي الذي يقيمه نادي الرياض الأدبي كل عامين، وملتقى النص الذي يقيمه نادي جدة الأدبي سنويا، خصصت محاورهما لدراسة الإنتاج الأدبي السعودي، وكانت مشاركة الناقد الأكاديمي فيهما خير دليل على اهتمامه بالمشاركة والحضور، وكذلك دليل على وجود حراك نقدي في المشهد الثقافي السعودي، لكن الصحافة الثقافية والأدباء المعنيين بالأمر غائبون عن مثل هذه الأنشطة، ولا ندري سبب العزوف عن حضورها والاهتمام بتغطيتها إعلاميا كما كان يحدث في عقود سابقة. وقد تكون العلاقة المتوترة بين الإبداع والنقد قد نشأت من فكرة أنّ هناك منتجاً روائيًا كميًا متواترًا، ولم يستطع النقد مواكبة هذه الغزارة في الإنتاج لأسباب يعود كثير منها إلى طبيعة النص الجديد وتخليه عن معايير الفن، ما صرف النقاد عن دراسته، وهي حالة ليست خاصة بالنقد المحلي فقط، بل الساحة الثقافية العربية عمومًا تعاني تحديات جديدة في ظل المتغيرات المختلفة التي تواجه الإبداع الأدبي المعاصر، ما خلق فجوة بين النقاد والأدباء تتعلق برؤية كل فريق لطبيعة العلاقة ومفهوم النقد لديه. "الحيرة الذوقية" فيما أوضح أستاذ الأدب والنقد بجامعة الإمام محمد بن سعود د. عادل الغامدي، أن غياب الناقد الأكاديمي معضلة حقيقية لبناء تراكم معرفيّ منتج، إذ إن وظيفته تتعدى التنظير القبلي أو التحليل البعدي إلى خلق جهة تخصّصيّة تقود ثقة المتلقيّ وتضبط معاييره، وقد تظهر بغيابه علامات الفوضى والاضطراب النقدي والحيرة الذوقية وشيوع الأحكام الانطباعية السريعة ذات الاستهلاك المؤقت. مبيناً أن الناقد الأكاديمي يستند إلى شكل منظّم من التفكير، الأمر الذي يساعده على سبر أغوار الأشكال الإبداعية المخاتلة، وفحص أنظمتها واستكناه أطروحاتها ثم تصنيفها وإدارة الحوار حولها، ولذلك تحتاج المجتمعات الحية والمتفاعلة إلى نقاد أكاديمين في مختلف العلوم الإنسانية. وفي وسطنا الثقافي نعاني غياب هذا الناقد أو ضعف دوره، والسبب - في نظري - يعود إلى اختزال الناقد في الأستاذ الجامعيّ المشغول بقاعة درسه وأعبائه الوظيفية، فهذا الأخير مرتبط بمشاغل تعليمية وأكاديمية؛ وهي مشاغل تستهلكه وتستنزف وقته وجهده، فيغدو متعبا منصرفا عن ترف مطاردة الفرص الإعلامية للظهور في المناسبات الثقافية العامة. كما يعزو غياب التجسير الثقافي بين المؤسسات الأكاديمية والمجتمع لخلق هذه القطيعة، فتحولت الجامعات إلى أبراج عاجية متعالية لها تقاليدها الخاصة ولغتها المتفردة ومشاغلها المختلفة، فبحوث أساتذة الجامعات وجهودهم الفكرية الهائلة تدفن في مجلات علمية في أقبية المكتبات المظلمة التي لا يكاد أن يقرأها أحد، وهي بحوث تخصصية فيها جهد عظيم، لكنها لا تلامس اهتمام الناس ولا تجيب عن أسئلتهم. كما أن الوصول إلى منابر الشهرة الثقافية يتطلب جهدا تسويقيا قد لا يمتلكه الأستاذ الجامعي؛ فكثير من الأساتذة الجامعيين المتميزين بحثا وتدريسا غير معروفين إعلاميا، والعكس صحيح؛ فبعض المغمورين أكاديميا مشهورون إعلاميا وممن يتصدر المشهد الثقافي. والمسؤولية - في نظري - مشتركة بين الأطراف كلها: المؤسسات الثقافية التي لا تبذل المجهود اللازم في استقطاب الأسماء الأكاديمية المميزة، وتمكينها من المنابر الثقافية العامة، والأستاذ الجامعي الذي رضي بهذا الواقع ولم يبذل جهدا في تغييره لإيصال صوته ووجهة نظره، والمؤسسات الأكاديمية من جامعات ومعاهد التي قصّرت في التواصل مع المكونات المجتمعية ولم تقدم البرامج المناسبة وخطط العمل لإصلاح القطيعة بين الطرفين. وأمر آخر أراه في غاية الأهمية ومتصل بما قلناه آنفا، وهو ضرورة وضوح التحديد المعياري لوظيفة الأستاذ الجامعي حتى يسهل تقييمه وتصنيفه، وهو مطلب على وضوحه وبداهته، إلا أن تطبيقه عسير ومرتبك خاصة في جامعاتنا، فمن الأستاذ الجامعي الجيد؟ هل هو المدرس الناجح داخل قاعة درسه المتابع لطلابه، أم هو الباحث الجاد المتمكن من أدواته البحثية المنصرف إلى هموم النشر العلمي وأعبائه؟ أهو المعروف إعلاميا وجماهيريا، المنشغل بمطاردة البرامج الإعلامية وحضور المناسبات العامة، أم هو الإداري المتنفّذ المنشغل بالحصول على المناصب العليا والوظائف المؤثرة؟ والحق أن الأستاذ الجامعي مطالب بها جميعا، وهو إن قصّر في واحدة منها عُدّ مقصرا في عمله حتى لو أحسن في بقيتها. زيّاد: هو ناتج عن إحساسه بفقدان دوره الدخيل: حضور واضح لا يمكن حجبه الغامدي: الغياب معضلة حقيقية