الكلام الوارد في العنوان نُسب أيضاً للمتنبي بصياغة «أنا وأبو تمام.. «.. والأقرب أنّ حكيم المعرة أبا العلاء هو قائلها، فالمتنبي لا أظنه يُقارن نفسه بأحد.. فضلاً عن اعترافه بوجود من هو أشعر منه ولو استبدل ذلك بالحكمة.. ومن يُؤْتَ الحكمة فقد أُوتي خيراً كثيراً.. وفي ظني أن المعري نفسه هو الحكيم، أما أصحابه الثلاثة فشعراء، وإن جرت الحكمة على ألسنتهم، فالمتنبي يُقدِّم لنا الشعر أولاً، وما يردد في ثناياه من حكمه فهو ثانوي، وصيغ بحرارة الشاعر ومرارة التجربة.. أما المعري فقد كان رهين المحبسين يقول الحكمة عن تأمل وتفكير لا عن معاناة وتجربة، وربما كان للفراغ الذي يعيشه أبو العلاء دورٌ في تفكيره النظري أو الفلسفي فيصوغه حكمة، ولعل الفراغ أيضاً ولّدَ (لزوم ما لا يلزم).. فكرة الحكمة عند المعري تسبق الشعر.. أما المتنبي فشعره يسبق الحكمة، فهو يقول ما يشعر به إزاء المواقف والتجارب التي خاضها وعانى منها، ويكشف أعماق البشر.. تخرج حكمة المتنبي حارّة طازجة كرغيف الخبز الخارج من الفرن فوراً.. وتخرج حكمة المعري هادئة موزونة وأحياناً باردة.. ولو كانت صادقة.. بعض ما يُقال عنه حكمة في شعر المتنبي هو هجاء للناس والحياة عن مرارة تجربة وصدق إحساس وقد لا يقبله الحكيم.. المعري كان شديد الإعجاب بشعر المتنبي ولا يطيق أن ينتقصه أحد، وقد كان في مجلس أحد الولاة - قبل أن يعتزل في بيته - فسمع الوالي يُهوّن من شعر المتنبي فغضب وقال بهدوء وذكاء: * لو لم يقل المتنبي إلا قصيدته: «لك يا منازل في القلوب منازلْ».. لكفت.. فغضب الوالي الذكي وأمر بطرد المعري من مجلسه، ثم قال: «أتدرون ماذا يقصد هذا الأعمى بذكر تلك القصيدة مع أن للمتنبي ما هو أجود منها؟ قالوا لا، فقال: إنه يعنيني ببيت ورد فيها: وإذا أتَتْكَ مَذَمّتي من نَاقِصٍ.. فَهيَ الشّهادَةُ لي بأنّي كامِلُ.