بين اختراع مطبعة غوتنبرغ الألماني ودخولها العالم الإسلامي مدة 276 أي مايقارب ثلاثة قرون ظلت أعجوبة نشر المعرفة في العصر الحديث منفية عن الديار الإسلامية بموجب فتوى خرجت عن الباب العالي العثماني . ويقال إن دخولها الأول كان تهريبا وخلسة عبر بعض الرهبان في جبل لبنان (كمطبعة دير قزحيا )الذين كانوا في البداية يستعملون الحروف السريانية في الطباعة خشية وقوعها في أيدي السلطات العثمانية . الكتاب كوعاء معرفي له نفوذ وقدرة على تحويل المعرفة من فعل نخبوي للصفوة إلى تجييرها كقيمة متاحة ومتداولة بين جميع الطبقات . ويبدو أن للرقابة تاريخا ملطخا في جميع أنحاء العالم ففي مطالع القرن الثامن عشر كانت طباعة الكتاب في فرنسا تتطلب أن يكون هناك موافقة خطية على محتوى الكتاب من وزير العدل الفرنسي شخصيا , وعلى الرغم من هذا كتب الأديب الفرنسي مونتيسكو كتابه ( الرسائل الفارسية ) والكتاب عبارة عن مجموعة من الرسائل التي كتبتها شخصيتان متخيلتان من الفرس حول أسفارهما ومشاهداتهما في أوروبا , واستغل مونتيسكو جهل الفارسيين بالمجتمع الفرنسي ليمرر الكثير من رسائل السخرية والهزء بالكثير من أعمدة المؤسسات القائمة كالمراتب التصاعدية لوظائف الكنيسة , واستشراء الفساد في المؤسسة السياسية , وعندما حوصر مونتيسكو بغضب السلطات كان يرد ببراءة (إن الفرس هنا يكشفون عن جهلهم) . لم تستطع البشرية أن تصنع السجن الكامل , وبالتأكيد الان أثناء فعاليات معرض الكتاب في الرياض ستظهر صولات وجولات بين الناشرين والرقابة في المضمار، ووعثاء وغبار الكر والفر ستملأ الصحف ومواقع الإنترنت , وستوفر للكتب الممنوعة أو المصادرة دعاية كبرى وجامحة لن تنالها عبر أكبر وكالات الدعاية والإعلان . ويبدو أن المخاتلة والكر والفر هي قديمة جدا في تاريخ الشعوب , فالمعرفة هي قوة وسلطة قد تهدد أشكال السلطة الأخرى وتزحزحها عن هيمنتها ومركزيتها . فأبو العلاء المعري يقال إنه حضر مجلساً أدبياً في منزل الشريف المرتضى ؛ وفي ثنايا حديث هذا المنتدى انتقص الشريف من شاعرية المتنبي وكان شيخ المعرة يجل أبا الطيب وله مؤلف حول أشعار المتنبي اسماه (معجز أحمد) واستكثر على الشريف انتقاده فقال من فوره : يكفيه -أي المتنبي _ أنه القائل : لك يامنازلُ في القلوب منازل أقفرتِ أنت وهن منك أواهل فاحمر وجه المرتضى واغتاظ وصاح بغلمانه أن أخرجوا هذا الأعمى . وحين استفسر الحضور عن سبب غضبه من بيت شعرٍ ليس فيه ما يريب أجابهم المرتضى قائلاً : لقد كان هذا الأعمى يقصد قول المتنبي في نفس القصيدة : وإذا أتتك مذمتي من ناقص ....فهي الشهادة لي بأني كامل ومرر أبو العلاء رسالته بكل مكر ودهاء , متحديا الرقابة ووقار مجلس المرتضى . المعرفة هي طائر العنقاء الذي ينهض دوما من رماده ويحلق نحو الآفاق البعيدة غير المطروقة , فهي تراوغ العسف والترويض , وتخاتل القولبة والنهايات المغلقة وستعجز الرقابة عن اصطيادها.