يعن لبعض الفلاسفة والشعراء والمثقفين من المسلمين عرض بعض الأحكام الشرعية الثابتة القطعية على عقولهم، فما قبلته عقولهم قبلوه، وما لم تقبله وضعوا حوله علامات استفهام تقودهم في العديد من الأحيان إلى التشكيك وربما إلى الضلال المبين، وممن برز في هذه المجال الشاعر العباسي الفيلسوف أبو العلاء المعري الذي استنكر ذات يوم قطع أيدي السراق على الرغم من أن هذا الحد الشرعي وارد في القرآن الكريم فجسد المعري موقفه في قوله: يد بخمس مئين عسجد فديتْ ** ما بالها قطعت في ربع دينار تناقض مالنا إلا السكوت له ** ونستعيذ بمولانا من النار! وفي عجز البيت الثاني شعور من المعري بأنه آثم على ما أبداه من الاستنكار ضد حد شرعي قطعي ولكنه كغيره من الذي يطلقون لعقولهم العنان أبى إلا أن يعبر عن موقفه الاستنكاري غير المقبول. ولكن الشريف الرضي وهو أحد خصومه الألداء رد عليه بقوله: صيانة النفس أغلتها وأرخصها ** خيانة المال فانظر حكمة الباري وقال شاعر آخر: قل للمعري عار أيما عار ** جهل الفتى وهو عن ثوب التقى عاري عز الأمانة أغلاها وأرخصها ** ذل الخيانة فافهم حكمة الباري وروي أن الشريف الرضى أخذ ذات يوم ينتقص في مجلسه الأدبي من شأن المتنبي وكان في المجلس أبو العلاء المعري، الذي يكنّ للمتنبي إعجاباً شديداً حتى ألف عن شعره كتاباً نقدياً بديعاً، فصبر قليلاً على كلمات الشريف العباسي احتراماً له، لأنه من أبناء عم الخليفة الحاكم، ولأنه في مجلسه وفي ضيافته، ولكن صبره نفد فقال موجهاً كلامه لمن في المجلس: والله لو لم يكن للمتنبي إلا قصيدته التي مطلعها «لك يا منازل في القلوب منازل» لكفته فخراً.. وعندها غضب الشريف الرضي وأمر خدمه بسحب أبي العلاء المعري من رجليه ورميه خارج المجلس، فتنمر وجه بعض من في المجلس وعاتبوا الشريف الرضي على فعلته وأن المعري لم يقل ما يستوجب إهانته بهذه الطريقة، فرد عليهم الشريف الرضي قائلاً: إنكم لا تدرون أن هذا الخبيث أراد من إشارته لتلك القصيدة بيت شعر منها جاء فيه: وإذا أتتك مذمتي من ناقص ** فهي الشهادة لي بأني كامل ويقال إن المعري كان جالساً في مجلس أدبي ممداً رجليه فعثر فيها أحد الأدباء فقال لمن في المجلس بوقاحة: من هذا الكلب؟ فرد عليه أبو العلاء قائلاً: إن الكلب هو الذي لا يعرف سبعين اسماً للكلب فبهت الرجل، ولما سئل أبو العلاء عن ذلك العدد من أسماء الكلب سردها وكأنه يقرأها من صحيفة. ومن الأبيات التي توقف عندها العديد من النقاد قول المعري: والذي حارت البرية فيه ** حيوان مستحدث من جماد في حديث عن كون آدم خلق من صلصال أي من جماد، فبعضهم فسره بالحيرة السلبية التي تدعو إلى الشك في أصل الإنسان، وبعضهم فسره بالحيرة الإيجابية التي تدل على عظمة الخالق.. والله أعلم! [email protected]