على الرغم من أنه شهر كريم، إلا أن سلوكيات الناس تنقلب رأساً على عقب، ففي الصباح تجد أن الأحياء يلفها السكون، أحياء هامدة لا حراك فيها، وفي الظهيرة يتعمق هذا السكون، وكأنها خالية من السكان تماماً، وبعد الظهيرة يخرج الناس على استحياء، ملثمة متعبة، وعندما تحاول الحديث مع أحد المارة فإنه لا يعيرك الاهتمام اللازم، لأنه صائم، وفي الشركات وبعض الدوائر الحكومية، يتراجع النشاط لأن أغلب الناس تؤجل مراجعاتها إلى ما بعد رمضان، لأنهم يعتقدون أن المراجعة في رمضان متعبة، فعندما تناقش أحد الموظفين على سبيل المثال، ويشتد النقاش بينك وبينه فإنه يشعرك بأنه صائم، يقولها بغضب، أما بعد الظهيرة فتختنق الشوارع بالسيارات، وتعلو أصوات «البواري» وتغرق الطرقات بالسيارات، هذا كله يحدث في النصف الأول من اليوم، أما باقي اليوم وبالتحديد عندما يقترب موعد الإفطار، فإن الناس يتحولون إلى ماراثون سباق، الكل يسابق الوقت في الشراء والتبضع بشكل سريع، والعودة إلى البيت بأقصى سرعة، قبل الإفطار، وقد يحدث على هامش هذا الماراثون بعض الاصطدام بين هذه السيارات، التي نادراً ما تنشب على إثرها بعض المشاجرات، التي تنتهي بتفريقهم من قبل المارة. هذا على مستوى السلوك التكتيكي، أما على مستوى السلوك الاستراتيجي، فتنصب خيام إفطار الصائم، التي غالباً ما تتكدس بها مجموعة من العمالة، وقد تتحول هذه الخيام المنصوبة بشكل عشوائي إلى شيء من الفوضى، وفي الطرف الآخر من هذه الأحياء تقام الولائم الباذخة، وتفرش الموائد الطويلة، عليها ما لذ وطاب من شتى صنوف الأطعمة، فتشتعل الأسعار اشتعالاً، وترتفع أجرة اليد العاملة ارتفاعاً، وتتعرض الأغنام والأبقار والإبل إلى إبادة جماعية، ناهيك عن الأضرار الصحية التي تنعكس على البشر، ففي رمضان تزدحم عنابر المستشفيات والمراكز الصحية الأخرى بالمرضى، كأمراض السكر، والضغط، والكوليسترول، أما أماكن وحدات الغسيل الكلوي فتزداد أحمالها بأحمال تفوق طاقتها الاستيعابية. كل هذا يا سادة يجري في رمضان في هذا الشهر الكريم، إنه مشهد معتم مشهد متشابك لا يليق بهذا الشهر، ولا بالحضارة التي تنتمي لها هذه الأمة، والسؤال: لماذا لا يكون رمضان شهراً مثل بقية أشهر السنة؟ لماذا لا يوجه هذا الهدر من الإنفاق إلى مراكز مكافحة السرطان وجمعيات الإعاقة، وكذلك وحدات الغسيل الكلوي، التي تستنزف أموالاً طائلة؟ إنها دعوة صادقة، فكلفة ما ينفق على إفطار الصائم، وموائد الطعام الطويلة كفيل بدعم قطاعات وجمعيات إنسانية كبيرة، تهتم بالمرضى، وتخفف من آلامهم وتساعدهم على الخلاص من معاناتهم.