ثمة مذاق خاص لشهر رمضان المبارك في مدينة طرابلس اللبنانية، وتكاد تكون الوحيدة من بين سائر المدن التي ينتبه الداخل اليها، ولا سيما الأحياء القديمة منها الى حضور الشهر بكامل طقوسه ومظاهر إتمامه والاحتفال به. فالمدينة الساكنة سكوناً يشبه موتاً مؤجلاً تدب الحياة في اوصالها، وتُبعث الروح في اليوم الاول من الشهر الذي ينتظره المؤمنون حولاً كاملاً. وكأن طرابلس مدينة انسحبت من حاضرها، أو جعلوها على مسافة منه، لتظل في برازخ الإيمان والتقوى والزهد، وهنا قد تكمن فرادتها ومن هذه البرازخ تستمد مقاومتها للتهميش وقدرتها الخارقة على الحياة والتواصل مع كل ما هو قائم فيها. وفي الأحياء القديمة من المدينة تعرض المحال على اختلاف انواعها أجود الاصناف من البضائع والحاجات التي يستهلكها الناس في الايام العادية من السنة. الا انها تختلف وتتباين في شكل لافت في رمضان، حيث تتألق، وتزهو وتصبح اكثر نظارة، واكثر قدرة على اجتذاب المستهلكين، إذ ان لشهر الصيام هيبة ووقاراً، وسلوكاً، يعزز شيجة صدق وثقة، ويشيع مناخاً من الود بين البائع والزبون. وعلى طول شارع "الحتة" وهو احد الشوارع الاكثر قدماً في المدينة القديمة الرومانية الاساس، المملوكية التاريخ والحاضر تنتشر سائر بسطات الخضار والفواكه، والحمضيات، والتمور والفواكه المجففة، والمرطبات الشعبية كالخرنوب، والسوس والتمر الهندي، والجلاب والتوت، وماء المشمش المجفف "قمر الدين". كما وتنتصب في أماكن متفرقة من هذا المشهد مناسف كبيرة من "المغربية" وهي إحدى المآكل الطرابلسية - الشعبية، التي تتألف من "سميد" مدعوك على شكل حَب الحمُّص، يضاف اليه الحمُّص الحقيقي والبصل المسلوق، ثم يقلّى بالسمنة، وهي إحدى الاطعمة الغائبة طيلة ايام السنة عن حياة المدينة لتحضر في شهر رمضان. كما وتقف مزهوة متباهية بفتنتها الاصناف الشهيرة من الحلويات الطرابلسية المتنوعة الاشكال والالوان العريقة، التي تشتهر بها طرابلس، وحملت المتنبي في احدى زياراته الى المدينة على ان يقول شعراً فيها. وعلى رغم المكانة التي تحظى بها العاصمة بيروت، في هذا الشهر من كل سنة، اذ تشهد نوعاً جديداً من انواع السهر وتمضية الليل عبر إقامة "الخيام الرمضانية"، ويتم استحضار المطربين والمطربات واشعال النراجيل لاحراق الوقت الى ان يحين موعد أذان الفجر معلناً الامساك. الا ان لطرابلس سهراً عابقاً بالايمان والانقطاع والتبتل، وهذه احدى مسالك العبادات التي دأبت عليها المدينة منذ نشأتها الاسلامية الاولى. كما وتشتهر بكثرة المساجد والمدارس الاسلامية، والزوايا والخلوات الصوفية، اذ تغص هذه الدور بعد ان يفرغ المصلّون من اداء صلاة العشاء، المتبوعة بصلاة التراويح بمشايخ وأتباع ومريدي هذه الطرق المتعددة كالنقشبندية، والمولوية، والشاذلية، والعمرية وسواها. ففي "الجامع المنصوري الكبير" المملوكي الطراز والهندسة وبناه الخليفة الاسلامي المملوكي السلطان الكبير المنصور قلاوون، المشيد على مساحة تناهز الثلاثة آلاف متر. يحتشد في ردهاته وصحن بهوه الفسيح يومياً من الشهر الكريم المئات من المعوزين المحتاجين لاخذ الهبات والصدقات التي اعتادوا عليها من محسنين هم أيضاً تعودوا على انفاقها وعطائها" اذ ان الموعد السنوي المعقود بين الطرفين هو في مثل هذا الشهر من كل سنة. وتقام في نواحي متفرقة من هذا المسجد البديع التصميم، الضخم المساحة "موائد الرحمن" التي يتجمع حولها الصائمون ممن هم من ابناء المدينة، او من ابناء المناطق والقرى المحيطة بها، او ممن يفدون اليها من متصوفة اتراكاً وسوريين وعراقيين، وذلك تواصلاً ووداً واحياءً لتقاليد وطقوس درج عليها كبار مشايخ هؤلاء. كما وتحظى طرابلس في شهر رمضان بزيارة نخبة من المستشرقين المهتمين بدراسة تاريخ الظواهر الاسلامية سلوكاً تشريعياً، وطقوساً وتقاليد اضحت مع الزمن جزءاً من حضارة المدينة، التي كانت في زمن المماليك عاصمة احدى الحقب الاسلامية المملوكية بامتياز. ويعكف هؤلاء الرحالة المستشرقون على الاقامة في الاحياء القديمة من المدينة ليكونوا على مقربة مما يجري من حركة حياة في المساجد، والزوايا والخلوات الصوفية، للاطلاع على انماط الحياة، وطرق عيش الناس، والاساليب التي استمروا يقلدونها عبر مئات السنين. ولعل اكثر ما يجذب انتباه هؤلاء هو تلك الاشعار التي يرددها المغنون والمنشدون الدينيون في مديح النبي صلى الله عليه وسلم في الحان عربية اصيلة وايقاعات مضبوطة تحقق للسامع صفاء روحياً وزهواً نفسياً واعتداداً انسانياً يميزه بحسبه صائماً مختاراً خصَّه الله بغذاء قد لا يتوافر لسواه من المخلوقات. وما ان يقترب موعد الافطار تبدو المدينة شبه خالية من حركة المارة والسيارات، لتصدح اصوات المقرئين عبر المكبرات المنصوبة على المآذن. وعلى رغم اعلان آذان المغرب ايذاناً بالافطار، الا ان الكثير من الصائمين لا يفطر الا حين يسمع صوت المدفع ودويّه يملأ الارجاء. وما ان تبتلّ العروق ويتناول الناس حاجتهم من الطعام يعودون من جديد الى ضخ الدماء في اوصال وشرايين المدينة، عبر حركة السيارات التي تصخب وتكثر، وعبر حركة المتحولين، والمتسوقين، الذين لم يتمكنوا من ذلك اثناء النهار، اذ انهم ينصرفون الى اعمالهم وتحصيل ارزاقهم، حيث يدركون العصر خائري القوى، منهكين، ومعظمهم يتوق الى الاستسلام لقيلولة ما قبل الافطار. وفي اعقاب صلاة العشاء يبلغ الازدحام في الشوارع حداً غير معهود في النهار، ويتوزع الناس في الاسواق القديمة، حيث المقاهي الشعبية ومحال الحلويات والمرطبات، ويزدحم كورنيش "الميناء" بعربات الذرة المسلوقة والمشوية. وعربات الترمس، والعصائر على انواعها. وعلى قرقعة فناجين حملة مصبات القهوة، ومع عذوبة اصوات المنشدين والمقرئين، وتحت ظلال الاضواء المتماوجة على صفحة الشاطئ يروح المتنزهون يذرعون الرصيف جيئة وذهاباً، وحداناً وزرافات.