أصدق الشعراء بالذات المتقدم منهم هم أولئك الذين أتى شعرهم من واقع تجربة عميقة ومعاناة حقيقية أمثال الشاعر الكبير عبدالله بن هولان الجبلي، الذي يجهله كثير من المهتمين بالأدب، وضاع كثير من شعره أو نسب إلى غيره، ربما نتيجة غياب التدوين والتوثيق، إضافة إلى الفراغ الذي عاشه الإعلام مرحلة من المراحل، وعاش شاعرنا في الفترة من 1844م إلى 1916م متنقلا بين حياة الحاضرة والبادية في منطقة نجد، قبل أن يرتحل إلى الكويت ويعيش تجربة التجارة التي نمت معه حتى صودرت منه في الكويت بكاملها ومقدارها أحد عشر جملا محملا بالبضائع ومهيأ للسفر، خاض بعدها تجربة جديدة تمثلت في ركوب البحر والغوص وتجارة اللؤلؤ، التي اكتشف بعد فترة أنها لا تناسب أهواءه وقدراته كرجل تربى في الصحراء وعشق مكوناتها وطبيعة رجالها عندما عاد مع تاجر اللؤلؤ المشهور في الكويت شملان الرومي على مركب اسمه (منصور)، وأدخله معه إلى تجار اللؤلؤ في مركب تاجر اللؤلؤ المعروف هلال الديحاني، ومن بين هؤلاء التجار حسين الرومي، الذي سأله عن الأحوال فأجابه: صاحب البيت المشهور: طار الغراب وصار بالوكر غرنوق.. يابو علي ما نيب غيصٍ ولا سيب مير اتخبط والبحر حاشني حوش قزرت عمري لين بين بي الشيب فوق الشداد وجاعد الخرج مفروش أسج من بين المناجيب واغيب آخذ عليهن بين سجات وطروش ما نركب الا طيبات المناجيب تجفل من العرقوب لا ناشها نوش وبحسب كتاب سيرة الشاعر عبدالله بن هولان تأليف عبدالعزيز بن عبدالرحمن اليحي حفيد الشاعر من ناحية الأم، فقد كان لأسرة الهولان مزارع وآبار قديمة في ضواحي الدوادمي، ومنها عدّ «بئر» تسمى الهولانية، كانت منهلا للحجاج والمسافرين، ثم رحلوا إلى سدير واستقر الشاعر في مدينة المجمعة؛ حيث ما زال متقلبا بين تجارب العمل الحرفي والرعي والتجارة والحراسة. وقع ذات مرة بمركز وضع حديثا على أحد الموارد يتولاه مأموران اسم أحدهما رويشد والآخر عثمان، وألزموه بدفع مبلغ المرور، وعندما بين لهما أنه لا يجد المال ليدفعه غير بشته، أخذوا البشت، فقال رحمه الله: وابشتي اللي ما نبيعه بالاثمان بالشبط كني في ليال الصخاني بشتي وقفى به رويشد وعثمان خلوني امشي بالشتاء الهرمزاني كان الشاعر غفر الله له ونقلا عمن عاصروه طويل القامة قوي البنية حاد البصر مهيبا ومقداما وشجاعا، وكان جسورا يذهب بمفرده لاقتناص الضباع في جبل مجزل أحد جبال اليمامة، ويدخل عليها بمخابئها، ويأتي بها حية، وفي الوقت نفسه كان يتسم بالحكمة والصبر، ويستشهد على ذلك من حادثة عندما كان ملحاقا أي معاونا مع أحد أصحاب الإبل، فلطمه صاحب الإبل على إثر لطمة ناقة على وجهها وطأت قدمه، فلم يكترث بذلك، واستمر في العمل ومعاونته في سقيا الإبل، وعندما لامه بعض الحضور على سكوته قال: ودك إلى الرجال كبده متينة يصبر ولو صلفوا عليه المعازيب لا بدهم من ساعة ذاكرينه أما على مكروه والا على طيب ولما سمع المعزب القصيدة أقبل عليه وقبل رأسه واعتذر منه وأقسم عليه إلا أن يختار بين الناقة التي لطمها أو ذلول حرة، ورفض في البداية الخيارين، ولكن مع إصرار صاحبه اختار الذلول الحرة، وكانت أول ذلول يمتلكها. وله أيضا قصة أخرى تتجسد فيها الحكمة وحسن التصرف، عندما خرج من الكويت إلى نجد عام 1315ه ومعه 11 بعيرا محملا بأنواع من التجارة برفقة (رفق)، والرفق رجل يصطحب حتى يحمي القوافل من قبيلته أو جماعته أثناء المرور بأرضهم، وعند اقترابهم من المجمعة ونزولهم للعشاء أحاط بهم 15 مسلحا من جماعة (الرفق)، الذي انضم إليهم فنهبوا الإبل بأحمالها، ولم يبد أي مقاومة حفاظا على سلامة ابنه صلال، الذي كان لا يزال غلاما. وعندما وصل المجمعة أودع ابنه عند أخواله واشترى ذلولا اقتفى بها درب اللصوص، وفي إحدى محطات توقفهم وجدهم قد رموا بأحمال من (التمر الهندي) لجهلهم بها، فخبأها واستمر بملاحقتهم حتى عثر عليهم قرب القطيف، وقد انضموا إلى شيخهم، وهناك تقدم إلى الشيخ وهو أحد نبلاء قبائل الجزيرة، واستأذنه في إلقاء قصيدة وصف فيها خيانة وغدر (الرفق)، وتبييت الغدر مع جماعته ما يعد منافيا للأعراف القبلية، وقد أثارت القصيدة حفيظة الشيخ الذي أمر فورا بإعادة جماله بأحمالها. توفي الشاعر عام 1334ه في الكويت بعدما تقدمت به السن وتجاوز سن السبعين عاما، وقال واصفا تقدم السن وتغير الملامح وخوار القوى وتلون شعر اللحية ضمن قصيدة اشتهر منها بيتان حفظهما وتناقلهما الناس بشكل واسع على شكل لغز: أنشدك عن شي طويل ومفروق دوم الليالي في يمينك تشده طار الغراب وصار بالوكر غرنوق يا عونة الله كل شٍ وصل حده هلال الديحاني الشاعر عبدالله بن هولان تاجر اللؤلؤ حسين الرومي