جاء رجل إلى الحجّاج فقال: إن أخي خرج مع ابن الأشعث (وهو ثائر ضد الأمويين)، فضُرِب على اسمي في الديوان (أي مثل وضعوني على قائمة سوداء)، ومُنِعت العطاء (حُرِمتُ الراتب)، وهُدِمَت داري. قال الحجاج: هيهات، أما سمعت قول الشاعر: ولرب مأخوذ بذنب قريبه .. ونجا المقارف صاحب الذنب قال: أيها الأمير، إني سمعت الله يقول غير هذا. قال: وما قال؟ قال: قوله تعالى: «قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ. قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ». قال الحجاج: يا غلام، أعد اسمه في الديوان، وابنِ داره، وأعطه عطاءه، ومُر منادياً ينادي أن صدق الله وكذب الشاعر. لحظة إنصاف نادرة من الحجاج، لاحَظ فيها خطأً في بيت معروف، لكن ليس ذلك البيت حالة شاذة، بل كثير من الشعر فيه أخطاء وأكاذيب، ولا بأس بالمبالغة في الشعر إذا زاده جمالاً، لكن إذا كان باطلاً يُستَشهَد به، فهذا ما لا يصح، ومن ذلك قول المتنبي: لا يَسلَمُ الشّرَفُ الرّفيعُ منَ الأذى .. حتى يُرَاقَ عَلى جَوَانِبِهِ الدّمُ فهذا البيت وأمثاله تمثل بها بعض الناس ليبرروا عنفهم وما يسمى جرائم قتل الشرف، التي اقترفوها ظانين أنهم يحمون شرفهم واسمهم، متجاهلين قول الرسول عليه الصلاة والسلام: لا يحل دم امرئٍ مسلمٍ يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاثٍ... الحديث. ومن أشهرها بيت آخر للمتنبي يقول فيه: لا تشتر العبد إلا والعصا معه .. إن العبيد لأنجاس مناكيد لماذا قالها المتنبي؟ كان يقصد شخصاً بعينه، هو كافور الإخشيدي رحمه الله؛ لأنه كان عبداً في أول حياته، فمكّن الله له أن يحكم مصر بعد إعتاقه، وكان حليماً حكيماً كريماً، ومدحه المتنبي كثيراً آملاً في منصب، لكن لم يرَ كافور أن المتنبي مؤهل، فلما يئس ترك مصر وهجاه بتلك القصيدة التي لا يزال الناس يرددونها على ما فيها من ظلم وكذب! وكما قال الله في مثل هؤلاء ممن ينتصر للشاعر مهما هجا: «والشعراء يتبعهم الغاوون».