يعد الوقف رافداً مهماً من روافد التكافل الاجتماعي في المجتمع الإسلامي، لذلك حرص الكثيرون منذ بداية ظهور الإسلام على وقف العديد من الممتلكات الخاصة بهم، وذلك بتحبيس أصلها للانتفاع بما تخرجه من ريع لصرفه على أوجه الخير المتعددة، ويستند شرعيته لأحاديث نبوية كثيرة منها: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاّ من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له"، ولعل أول وقف عرف في الإسلام هو وقف سبع بساتين بالمدينة، والتي كانت لرجل يهودي اسمه "مخيريق"، أوصى بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم حين عزم على القتال مع المسلمين في غزوة أحد، فقال في وصيته: "إن أصبت -أي قتلت- فأموالي لمحمد يضعها حيث أراه الله"، فقتل، وحاز النبي صلى الله عليه وسلم تلك البساتين السبعة، فتصدق بها، أي حبسها، ومضى الصحابة -رضوان الله عليهم- على ما سنّه النبي صلى الله عليه وسلم، وعملوا بما حث عليه من الإكثار من الصدقة والإنفاق مما يحبون، وسجلوا أروع الأمثلة في التطوع بأحب أموالهم إليهم، ومن ثم توالت الأوقاف منذ تلك الفترة حتى يومنا هذا. وفي الماضي القريب منذ ما يزيد على النصف قرن تقريباً، فقد أوقف الكثير من الناس العديد من الأوقاف ووثقوها بالكتابة والشهود، وكانت تلك الأوقاف في تلك الفترة تصرف في أشياء محددة نظراً لحاجة المجتمع في ذلك الزمن، ومن أكثرها على الإطلاق الأضحية، حيث يوقف الشخص نخيلات أو أرض زراعية أو بئر على أن يتم إخراج أضحية للشخص من ما تدره من مال، ومن الأوقاف أيضاً تفطير الصائمين في رمضان أو في صوم الستة من شوال، وتأمين أكفان الموتى، أو تأمين "ودك" لسراج المسجد، أو وضع ميزان -قفان- في سوق البلدة ليستفيد منه الباعة والمشترون، وكذلك سقيا الماء، وكتابة المصاحف، أمّا في عصرنا الحاضر فقد توسع الناس في الوقف وباتوا يوقفون أموالهم في أشياء جديدة غطت أنشطتها سائر أوجه الحياة الاجتماعية، فامتدت لتشمل المساجد والمرافق التابعة لها والدعوة، والمدارس ودور العلم والمكتبات، والمؤسسات الخيرية، وكفالة الضعفاء والفقراء والمساكين والأيتام والأرامل، والمؤسسات الصحية، وغيرها من الأشياء المستجدة التي يحتاجها الناس كإنشاء مراكز غسيل الكلى ودور الرعاية الاجتماعية للجنسين وغيرها. مزارع ونخيل وكانت الأملاك التي توقف في الماضي القريب يطلق عليها اسم "صبرة"، والصبرة نوع من الوقف يعرف عند العامة بذلك الاسم وهي مفردة شرعية تعني "صبّر" فلان شيء يملكه على أوجه الخير، أي جعله وقفاً لا يتصرف فيه إلاّ في الوجه الذي أوقف من أجله، حتى تنتهي العين الموقوفة، إمّا بتلف، أو انتهاء، ولعل أغلب الصبرة تكون في النخيل أو الأراضي والمزارع، حيث يتم وقف نخيلات مثلاً على أضحية الدهر، أي أضحية تذبح كل عام لصاحب الصبرة وذلك من ثمن التمر الذي تنتجه هذه النخيلات، وقد يوقف البعض أرضه الزراعية ويشترط على من يحييها أن يدفع في كل عام مقداراً من أصواع العيش -أي القمح-، والتي يشترى بقيمتها ما تم اشتراط أن يصرف الوقف عليه، وكانت مصارف الوقف الصبرة محصورة في أشياء معينة مثل الأضحية للموقف، أو تفطير الصائمين في شهر رمضان، أو صيام التطوع كالستة من شوال أو عرفة وعاشوراء، إضافةً إلى تأمين "ودك"، وهو الشحم المذاب من الحيوانات لسراج المسجد الذي كان الوسيلة الوحيدة للإضاءة قبل انتشار الكهرباء، ومن المصارف للوقف تأمين أكفان الموتى، وبناء المساجد وسقيا الماء، أو وقفف ميزان في سوق البلدة والذي كان يسمى في ذلك الوقت "قفان"، وهو عبارة عن ميزان قديم محلي الصنع على شكل قائمة خشبية لها عدة مقاسات حسب الأوزان التي تستخدم لها، ويمرر عليها خطاف مصنوع من الحديد مسنن بخطوط محفورة على مقاسات تسمى "الوزنة"، والتي تعادل كيلو وثلث الكيلو، ويستخدم لمعرفة الأوزان الثقيلة مثل أحمال التمر والحبوب وغيرها، وقد عمد البعض ممن حباه الله تعلم القراءة والكتابة إلى وقف مصاحف يخطها بيده لعدة أشهر ويضعها في المساجد في وقت كانت الطباعة فيه شبه معدومة، ونسخ القرآن كانت تعد على أصابع اليد الواحدة في كل مسجد قديماً، إضافةً إلى وقف البعض لبئر ماء لسقيا الناس والماشية، وكانت هذه الأوقاف محل عناية من أصحابها ومن الواقفين عليها والنظار، حيث يتعاهدونها ويتابعون ما تخرجه من مبالغ ليصرفوها في أوجهها التي أوقفت من أجله. حمام الحرم والبعض من التصرفات يحمل الطرافة والبعض الآخر يحمل الغرابة، وفي ظل تنامي الأوقاف وتزايدها مع تقدم الزمن فإن البعض منها يحمل جانباً من الطرافة، ومن ذلك ما حدث من أحد أهل القرى في بلادنا منذ ما يقارب القرن من الزمان، والذي أوقف جريد النخل "العسبان" بأحد النخيل التابعة له في قريته، من أجل استخدامها في عمليات الضرب والعراك مع أبناء القرية المجاورة، وكتب وثيقة بذلك وأشهد عليها، والغالب في ذلك الزمان وقبل توحيد المملكة فإن أهل القرى يأتي بينهم مناوشات وعراك بالأيدي وربما استعانوا ب"عسبان" النخل من أجل الضرب بها، وكان صاحبنا من شدة حبه لقريته ورغبته في تقديم شيء ينفعها قد أوقف هذه النخلات لاستغلالها في هذه الغاية، أمّا من أغرب الأوقاف القديمة والتي وجدت في وثائق السابقين هو تخصيصهم وقفاً لإطعام حمام الحرم المكي الشريف، وذلك بأن يوقف عدداً من النخل أو أرضاً ويفرض فيها عدة أصواع من "العيش" أي القمح أو الشعير من أجل إطعام حمام الحرم، ويكون لهذا الوقف ناظراً يتعهده، بحيث يجمع ما ينتجه الوقف من القمح ويعطيه أحد الثقات ممن يرغب السفر إلى مكة للحج أو العمرة كي يقوم بنثره لحمام الحرم ليلتهمه تنفيذاً لهذه الوصية الغريبة. تنظيم دقيق واهتم المسلمون منذ القدم بالأوقاف، فقام الولاة والأمراء بحصرها وتعيين ناظرين لها، وبعد توحيد المملكة على يد المؤسس الراحل الملك عبدالعزيز –طيب الله ثراه–، فقد اهتم بالأوقاف عناية خاصة، وعين لها مشرفون يقومون على أمرها، وكان معظم الأوقاف موجوداً في مكةالمكرمة والمدينة المنورة، واستمراراً بالعناية بالأوقاف فقد تم في عام 1381ه إنشاء وزارة الحج والأوقاف، والتي شهدت تنظيماً دقيقاً للإشراف عليها وتعهدها وحصرها، وفي عام 1414ه تم فصل قطاع الأوقاف عن وزارة الحج، لتصبح وزارة الحج وزارة مستقلة بشؤون الحج، أمّا الأوقاف فقد باتت تتبع وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد، وهي الوزارة المسؤولة عن جميع الشؤون الإسلامية بالمملكة العربية السعودية، وتتولى الإشراف على الأمور المتعلقة بالأوقاف الخيرية وتنمية أعيانها، وبشؤون المساجد والمصليات، إلى أن صدر أمر ملكي بتغيير اسمها إلى وزارة الشؤون الإسلامية والدعوة والإرشاد. أضخم المشروعات ويعد وقف الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- أحد أضخم المشروعات المعمارية في العالم، حيث صنف كأكبر مبنى عمراني من حيث المساحة الإجمالية على وجه المعمورة، فقد بلغت مساحة بناء المشروع 1.5 مليون متر مربع، وهو مكون من سبعة أبراج متلاصقة، استوحى المشروع ملامح من العمارة الإسلامية، وبارتفاعات مختلفة يصل ارتفاع البرج الرئيسي فيها إلى 601 متراً، ويستوعب المشروع عدداً كبيراً من الزوار وضيوف الرحمن يبلغ 65000 نسمة، كما تبلغ الطاقة الاستيعابية للمسجد داخل المجمع نحو ثلاثة آلاف وثمانمائة مصل، ولتأمين حركة القادمين والمغادرين من النزلاء والضيوف فقد تم تجهيز البرج بمواقف سيارات تتسع لقرابة 1000 سيارة موزعة على أربعة طوابق، ويتميز وقف الملك عبدالعزيز للحرمين الشريفين بقربه من المسجد الحرام، وتمتعه بالإطلالة المباشرة على الكعبة المشرفة، واتصاله المباشر بساحات الحرم الخارجية، وتتربع على قمة المجمع أعلى وأكبر ساعة في العالم تحتوي على أكبر شعار للمملكة، ويعلوها أكبر لفظ جلالة مع أكبر هلال إسلامي في العالم. مؤسسات خيرية ومع مستجدات العصر الحديث وحاجة الناس إلى أشياء جديدة لم تكن فيما مضى ضرورة فقد باتت بعض الأوقاف تصرف في هذه الوجوه، فبعد أن كانت الأوقاف محصورة في أضحية للموقف أو بناء مسجد أو تفطير الصائمين أو سقيا الماء، تعدت ذلك إلى الكثير مما يحتاجه الناس بشدة، ومن ذلك إنشاء مراكز غسيل الكلى للمصابين بالفشل الكلوي، ودور الأيتام مراكز الرعاية الاجتماعية ودار المسنين والأطفال المعاقين وتحفيظ القرآن الكريم وغيرها من أوجه البر والخير التي باتت تتنامى مع الزمن، وصارت بفضل هذه الأوقاف تمثل مسيرة عطاء متفقد مستمر بما تدره تلك الأوقاف من مبالغ مالية تعود بالنفع على المستفيدين من المحتاجين في كل مكان، واستمراراً للدعم فقد تم إنشاء مؤسسات خيرية وقفية تقوم على دعم كافة المناشط التي يحتاجها المعوزون والفقراء، تقوم بالإشراف عليها جهات حكومية متخصصة من أجل تذليل كافة الصعوبات التي تعترضها وتضمن وصول المساعدة إلى المحتاجين على أكمل وجه. باتت وزارة الشؤون الإسلامية المشرفة على الأوقاف اليوم الحرم المكي حظي باهتمام بالغ من قبل راغبي الوقف منذ القدم الأوقاف قديماً كانت تصرف في أشياء محددة حسب حاجة المجتمع يعد وقف الملك عبدالعزيز أكبر وقف في العالم وقف تفطير الصائمين من أشهر وأقدم الوصايا في بلادنا