كغيره من الناس من محبي الخير، وقبل أن يفارق الحياة الفانية، يتلمس ما ينفعه في آخرته، فيلتفت إلى ما عنده من حطام الدنيا، ليوقفه على أوجه البر، فلا يجد أثمن وأغلى من النخلة التي هي رفيق دربه، فمنها يأكل، ومنها يبني داره، ومنها ينسج حصيره ويؤثث منزله!. وكان يطلق على هذا العمل عند العامة آنذاك اسم "الصبرة"، وهي مفردة شرعية تعني صبر فلان شيء يملكه على أوجه الخير، أي جعله وقفاً لا يتصرف فيه إلاّ في الوجه الذي أوقف من أجله، حتى تنتهي العين الموقوفة، إما بتلف، أو انتهاء، ولعل أغلب الصبرة تكون في النخيل أو الأراضي والمزارع. وعلى الرغم من بساطة العيش وقلة ذات اليد، وكذلك الحاجة و"الشح الذي يلازم النفس الإنسانية، إلاّ أن ذلك لم يثنِ البعض، فهناك من عمد إلى نخلة أو أكثر، ليوقفها ويصبرها على أوجه الخير، كطعام للفقراء والمساكين، أو للصيام، أو لشراء "ودك" ل "سراج" الجامع، أو حتى لشراء أكفان للموتى. يستفاد منها في إطعام الفقراء أو شراء «ودك» ل«سراج» الجامع أو أكفان للموتى صدقة جارية عند الحديث عن حياة الأجداد ب "قسوتها" على كثيرين منهم، إلاّ أن ذلك لم يثنهم عن وقف بعض ما يملكونه من أجل الانفاق على الخير، ك "صدقة جارية" أجرها لا ينقطع إلى يوم القيامة، امتثالاً لقوله صلّى الله عليه وسلم: "اذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاّ من ثلاث، صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له، أو علم ينتفع به". وثيقة الصبرة وعندما يهم أحد بوقف شيء يملكه، يعمد قبل موته إلى كتابة ذلك عند أحد العارفين بالكتابة والعلم الشرعي، ويحضر الشهود من أجل التوثيق، والغالب أن يتولى كتابة "الصبرة" المطوع، وهو إمام جامع البلد أو القاضي اذا كانت البلدة كبيرة، كما يتولى تنفيذ ما ورد فيها أحد الرجال الموثوقين والعارفين في البلد بأجر معلوم يأخذه من هذه الوصايا، ويكون هو المسؤول في تنفيذها، وإيصال ما يخرج من الصبرة إلى أصحابها. img src="http://s.alriyadh.com/2012/03/30/img/612384785184.jpg" title=".. وآخر يستخدم "الودك" في إنارته" .. وآخر يستخدم "الودك" في إنارته نموذج قديم "الحمد لله كما يحب وكما ينبغي لكرمه، أما بعد، فهذا ما أوصى به فلان بن فلان، بعد شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً عبده ورسوله، بوقف نخله، وهو الحايط المسمى بنخل "بن فلان" على ساقية ...، في ...، شمالي ... وفي بلدة ...، وتمييز الوقف المذكور نبتة على ساقي الجرف، تلي مطلاعة له، هو وزوجته في أضحية الدهر، ما حصل منها على الدوام، ونبتتين التي أرفع منها على الساقي المذكور، على ناحية الساقي من جنوب، وقف على أكفان البلد المذكور، وباقي النخل، وأرضه وأثله مشترك بين صوام البلد، وإمام مسجده، للصوام ثلاثة أسهم، وللإمام سهم واحد، وبعد ما رتبه على هذا الترتيب، استثنا نخله ما دام الله محييه، فإن توفي هو قبل زوجته، فهي تستغله بعده إلى أن تتوفى، فاذا توفي الجميع، فالعقار المذكور ...."، بعد ذلك يُسمى الكاتب والشهود، ويذيل بتاريخ اليوم والشهر والعام، وهذا ما يدل على حرصهم الشديد على تأكيد الوصية وبيانها. img src="http://s.alriyadh.com/2012/03/30/img/215489736272.jpg" title="سراج أبو دنان يوضع فيه "ودك" الصبرة لإنارة المسجد" سراج أبو دنان يوضع فيه "ودك" الصبرة لإنارة المسجد انتفاع ودفع وبعد أن يصبّر عدد من الناس جزء من أراضيهم أو نخيلهم، يتقدم من يريد الانتفاع بها بشرط أن يدفع ما شرط فيها للمسؤولين عن الصبر، إما بإحياء المزارع والنخيل، أو البناء في الأراضي، مع إخراج قدر معلوم من الطعام محدد في كل صبرة، يسلم لهؤلاء الوكلاء، ويكون في الغالب بعدد من الأصواع من "بُر" وما شابهه، أو من "التمور" التي تقاس آنذاك ب "الوزنة"، وهي مقياس خشبي يعمل كالميزان، أو من "الودك" وهو سمن مذاب من شحوم الحيوانات، يستعمل لسراج المسجد للإضاءة، أو من القماش الخام الذي يستخدم كأكفان للموتى. تنتهي الصبرة بانتهاء المنفعة انقطاع العين وعندما يتقدم أحد لإحياء صبرة من نخيل أو أرض زراعية أو أرض للبناء عليها، يتم كتابة عقد بين من يرغب وبين الوكيل، ويحضر من أجل ذلك الشهود للتوثيق، مع بيان ما يتم إخراجه من الطعام أو النقد، مقابل ذلك، ومن النماذج التي تم فيها ذلك: "يعلم الناظر إليه أن فلان بن فلان - ناظر الوقف - صبّر فلان بن فلان - المستأجر - الأرض التي في (قفا) بيته من شرق، بين بيته وبيت فلان بن فلان بجديدتين - عملة قديمة - يسلمهن فلان أو وكيل السبل صبّره إياها مئة سنة، وهي لدلو الجامع"، ثم كتابة الشهود. وتستثمر الصبرة وتبقى العين حتى انتهاء المتصبر من استعمالها، إلى أن تنتهي منفعته، فتعود إلى الوكيل ليؤجرها وتصبيرها على غيره، وقد تنتهي بانتهاء العين المصبرة، كأن تكون نخلاً فقط، فعندما يموت النخل أو يتعرض للفناء، فان الصبرة تنقطع بانقطاع العين التي صبرت، وتنفيذاً لما جاء في الوصية.