ظل العمل الخيري ممتداً طوال قرون عديدة لا ينقطع عن سكان هذه البلاد، ومن أهم وجوه ذلك (الوقف)، حيث يوقف أحدهم منفعة بتحبيس أصلها وديمومة نفعها للغير؛ كمن يوقف نخلات لينفق من ثمرها على الأرامل والمساكين مثلاً أو على (الصوّام) أو بشراء دهن أو (ودك) لسراج الجامع، أو أكفان للموتى وغيرها الكثير من أوجه البر المختلفة. لا يتعدى صاعين من القمح أو «وزنتين» من التمر وأقل منها لإمام المسجد ومؤذنه وبما أن أهل الخير يغتنمون مواسم الخير؛ فقد كان شهر رمضان المبارك بمثابة ميدان سباق لهم، فالكل يتنافس في فعل الخير على الرغم من شظف العيش ومحدودية الدخل في ذلك الوقت، حيث أن جل طلب الرزق منحصر في الزراعة بمعناها البسيط التي تؤمن لقمة العيش لممتهنيها، كما أن أهم الأعمال الخيرية تكاد تنحصر أيضاً في اطعام الطعام. سفر طعام مملوءة بالتمر ومحفوفة ب«طاسات ماء القِرَب» البارد.. والأطفال أكثر فرحاً ومن أهم الأطعمة المقدمة (التمر) وذلك لسببين، الأول لنجاح زراعة النخيل بكثرة حيث المناخ المناسب لها، أما السبب الثاني فهو كون (التمر) من الأنواع التي يمكن ادخارها لمدة عام دون أن تفسد كباقي المحاصيل، فالتمر إذاً يأتي في مقدمة ما يقدم للإطعام، حيث كانت النخلة رفيق درب المزارع وفاتحة الخير عليه، فلا عجب اذا مارأينا ارتباط المزارع واهتمامه بها.. فكل ما ازداد اكرامه واعتناؤه بها كلما قدمت له الكثير من ثمرها الحلو والطيب.. ولهذا جاءت أغلب الوصايا والوقوفات في التمر الذي كان يكال ب(الوزنة)؛ فيقال مثلاً أوقف فلان من نخيله ثلاث نخلات يكون تمرها لابن السبيل أو الصائمين وغيرهم، كما كانت توقف الأراضي للزراعة والسكنى بثمن معلوم وفي صنفين اما النقود التي تصرف في مصارف الوقف، أو الثمار كالقمح والشعير أو التمر؛ فيقال في هذه الأرض الموقوفة صاعين من القمح أو البر تخرج في أعمال البر وهكذا. الفقر والجوع جعلا الجميع يتسابقون إلى «سرحة المسجد» لمشاركة «الصوّام» إفطارهم وقف الصوّام على الرغم من أن وقف الصوّام قديماً كان قليلاً، حيث لا يتعدى الصاع أو الصاعين من القمح أو الوزنة أو الوزنتين من التمر، إلاّ أن ذلك نافع ومجدٍ؛ فإذا اجتمع ما خصص من التمر لهؤلاء الصوّام فإنه كافٍ ويفيض، فكل يجمع ما لديه من طعام لهؤلاء الصوّام ومن ثم يقدم لهم في مسجد القرية فيجدوا ما يسدوا به جوعهم. وقد يخصص الواقف بعضاً من وقفه على مؤذن الجامع وإمامه، حيث أن المؤذن والإمام سابقاً لم يكن لهما مكافأة كما هو عليه الآن، وإنما يعتمدان في أجورهما على ما تركه الواقفون على هذه المساجد من طعام؛ فيكون لمؤذن المسجد كيلاً معلوماً من الطعام كالبر والعيش والتمر وكذلك الإمام. أوقاف مشهورة: وزنة (ودك) لسراج المسجد، فتيل، «قربة ماء»، ريال كل سنة لشراء «قاز» يوميات التفطير عندما ينتهي الناس من صلاة العصر يمكث العديد من المصلين في المسجد لتلاوة القرآن الكريم، ويتهيأ من وكلت إليه مهمة حفظ طعام (الصوّام)، ويسمى (ناظر الوقف)؛ لكي يهيئ سفرة الإفطار للصائمين في مسجد القرية، وغالباً ما يكون المسجد الجامع، فتراه يخرج التمر من (الجصة) التي يحتفظ فيها بالتمر، ومن ثم يضعه في (المطاعِم) ومفردها (مطْعَم) وهما انائان مصنوعان من خوص النخيل ملتصقان أحدهما كبير يتسع لمقدار كيلو من التمرة أي (نصف وزنه) تقريباً، فلم يكن الوزن آنذاك بالكيلو بل بميزان ذلك الوقت وهو (القفان)؛ فبدلاً من الكيلو كان هناك الوزنة، وهي ما يعادل بمقياس هذا الزمان الكيلوان إلاّ ربع تقريباً، أما الإناء الثاني فهو صغير بقدر كف اليد ومتصل بإناء التمر، والغرض منه هو وضع نوى التمر (العَبَس) فيه، حيث يتم وضع التمر في (المْطّعَم) على سفرة الخوص، ويتسابق الأبناء في جلب الماء في (طاسه)، وهي إناء من المعدن يصبونه من القرب المعلقة في سرحة المسجد، بحيث يكون بها الماء بارداً، وذلك قبل أن يشيع استخدام (الزير) وانتشاره الذي هو إناء من الفخار فوهته واسعة وأسفله ضيق مخروطي الشكل، وعند أذان المغرب يجتمع الصوّام على سفرة الطعام ويتحلقوا حولها ليفطروا على التمر والماء البارد من (القرب)، ويجلس مع هؤلاء صغار السن الذين عملوا بجد وكفاح مع المسؤول عن تفطير هؤلاء الصوّام، أما الصغار الذين لم يعملوا فيتم ابعادهم عن السفرة وصرفهم لبيوتهم ليتناولوا افطارهم مع ذويهم، وكم تكون فرحة الصغار الذين يشاركون الكبار افطارهم في سرحة المسجد كبيرة، وذلك لسببين الأول هو تمتعهم بالأكل من تمر الصوّام اللذيذ حتى الإشباع، وثانيهما هو مشاركتهم لكبار السن الإفطار في المسجد وهو مصدر فخر بين أقرانهم فهم يحسون بأنهم يقارعون الكبار بجلوسهم معهم. وقف عبدالوهاب: سراج يعلّق في رمضان من بعد المغرب إلى طلوع الناس من «صلاة العتمة» بين دار ابن جوير وآل فهد توثيق الوقف عندما يريد شخص ما أن يوقف أو يصبر شيئاً ل(الصوّام) مثلاً أو أي وجه من وجوه الخير؛ فإنه يحرص على توثيقه، وذلك بأن يذهب الى أحد المشهورين والحاذقين بالكتابة؛ ممن لهم باع طويل وخبرة في كتابة الوقوف من أهل الصلاح والتقى، بحيث يشهد بما يكتب ويحضر الكتابة أحد الشهود ممن يشهد لهم بالصلاح ويؤرخ الكتاب ويختتم بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تختم الوثيقة بختم الكاتب إن كان له ختم، وكمثال على ذلك نورد وثيقة لها أكثر من مائة وعشرة أعوام قال فيها الواقف من أهالي أثيثية ما يلي: «أقر محمد بن عمر بأنه وقف مراكزه في الخيستين اللواتي تحت دخينة الصوّام وهي التي على ساقي الجرعى والجرف في البطيحى وقف مراكزه على الصوّام وذلك في صحة منه واعتدال وتمام عقل بلا زوال شهد على ذلك علي بن عبدالله بن عبدالعزيز وشهد به وكتبه سليمان بن صالح بن سويدان، التاريخ 1325ه». سرحة المسجد مكان إفطار الصوّام أشهر وأقدم وقف عرفت المملكة الأوقاف قديماً كما أسلفنا، ومن أشهر هذه الأوقاف وأقدمها وقف «صبيح» المشهور في مدينة أشيقر، ويقول الشيخ عبد الرحمن بن منصور أبا حسين -رحمه الله- في مقال له نشر في احدى الصحف بأن (أشيقر) من البلدان (النجدية) التي تزخر بوثائق الأوقاف بنوعيها، فالأوقاف على الصوّام كثيرة جداً وهي الأشهر في أوقاف البلدة، ولذا دُونت في سجل خاص بها، ويتولى الإشراف عليها وكلاء على مرّ السنين إلى يومنا هذا، كما توجد أوقاف على الضيف يجمعها أمير البلدة كل عام، وقد دونت في سجل خاص بها شاملة كل بساتين البلدة صغيرها وكبيرها دون استثناء، كما يوجد أوقاف على الفقراء والمساكين والأضاحي والحجج وكذلك على الذرية، والسرج في المساجد والطرقات والدلاء على الآبار التي تستقي منها البيوت، ومن الأمثلة على ذلك من واقع الوثائق أوقاف «صبيح»، و»صقر بن قطامي»، و»رميثة بن قضيب» على الصوّام. ووقف «صبيح» في منتصف القرن الثامن الهجري حيث كُتب عام 747ه وجعل جزءاً من غلة الوقف يكون سماطاً من التمر في شهر رمضان عند الإفطار من كل عام يأكله الغني الفقير والحضري و»البدوي».. وفي منتصف القرن العاشر 5 شعبان 940ه وقف «صقر بن قطامي» على منوال وقف «صبيح»، وفي آخر القرن العاشر في 19 رمضان 986ه وقف «رميثة بن قضيب» أيضاً على منوال وقف «صبيح»، ثم توالت الأوقاف بعد ذلك، منها ما هو مخصص بأكمله للصوّام، ومنها ما يشتمل على جزء للصوّام. استلام الأرزاق من أوقاف الصوّام زاد من التكافل الاجتماعي ولا يزال مسجد الشمال بأشيقر يغص بالمصلين وتناول الإفطار فيه من تمر الصوام، كما يقول الأستاذ «عبدالله البسيمي»، وهو يعدد نماذج من صور الوقف في أشيقر ما نصه: (كما أوقفت هيلة بنت حمد بن منيف: وزنة (ودك) لسراج الفيلقية في رمضان وقربة تروي المصلين في مسجد الفيلقية برمضان والقربة من جلود الضحايا التي أوصت بها، ووقف حمد بن عبدالوهاب: سراج في شهر رمضان يعلق بعد صلاة المغرب إلى طلوع الناس من صلاة العتمة يعلق بين دار ابن جوير ودار آل فهد في سوق الصعيد، أما في العشر الأواخر من رمضان فيعلق زيادة على ذلك يعلق في الموضع المذكور إذا قام الناس لصلاة القيام إلى صلاة الفجر، وأوصت نورة بنت عبدالرحمن الرزيزاء بريال كل سنة يشترى به قاز ويشب به سراج في سريويل على عادته يجعل عند باب محمد بن إبراهيم بن حسين في رمضان في العشرين الأولى يشب أول الليل وآخره والعشر الأواخر يشب من المغرب إلى آخر الليل كله). أطفال يستعدون لتجهيز «سرحة المسجد» بالتمر والماء قبل موعد الإفطار وأما الأستاذ سعود بن عبد الرحمن اليوسف فقد ألف كتاباً ضخماً بعنوان: «من آثار علماء أشيقر»، وذكر العديد من النماذج لهذا المشهد الثقافي والحضاري لدى هذه البلدة في هذا المجال ومنها على سبيل المثال وثائق في رصد الأموال التي تعد لأوقاف (الصوّام )، وتسليمها لأمير البلدة آنذاك، وفي هذا الكتاب عشرات النماذج من الأوقاف التي خصص ريعها للصوّام. تمر الصوّام خلال جمعه من الصبرة ويكال ب»الوزنة» مشروع تفطير الصائم بعد أن منّ الله على هذه البلاد بالرخاء والاستقرار بعد توحيد هذا الكيان على يد المؤسس الراحل الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه-؛ اتسعت دائرة العمل الخيري، وأُنشئت الجمعيات الخيرية التي صارت تعتني بجوانب تقديم المساعدات الخيرية لكافة فئات المستحقين. ومن الجوانب الخيرية التي تقدمها هذه الجمعيات إنشاء مشروعات تفطير الصائمين طوال شهر رمضان المبارك بتبرعات من أصحاب الخير من الموسرين ورجال الأعمال، حيث انتشرت هذه المشروعات بحمد الله في كافة مدن ومحافظات ومراكز المملكة وقراها، وهكذا ودعت الجوامع تفطير الصوّام بعد أن تعطل الكثير منها بعد تلف العين المحبسة أو الوقف، وإن كان بقي منها الشيء اليسير الذي أُعيد كإحياء لهذه الوقوف التي مازالت قائمة تصارع من أجل البقاء. مشروع تفطير الجميح بشقراء مستمر منذ 72 عاماً تصوير بديع في تصوير بديع لما كان الحال عليه من تكافل اجتماعي، من خلال تفطير الصوّام في زمن جميل مضى.. أبدع شاعر المناطق والمناسبات «أحمد بن ابراهيم المانع» في وصف هذه الصورة الجميلة؛ فهو المغرم بالتراث، وعندما شاهد أكوام التمر، قال: عشرين وزنه تمر قيّد تساق مني على الصوّام من يبتدي الصوم لاعيد لارامل الدار والايتام وعندما شاهد (حائط نخل) قال: الحايط الّلي فيه سلج وقطار كتبت صبره واشهدوا ياجماعه وارجي ثوابه منك ياخير غفار في يوم ماينفع حلال وبضاعه بينما قال لما وقع نظره على مسجد طيني قديم: لمطوع المسجد من العيش صاعين وبالمثل للمذن مع العيش حنطه يا القاضي اكتبها من الحين للحين ماربح من يذخر حلاله بشنطه ولما أسره منظر سراج (أبو دنان) في أحد زوايا مسجد طيني قال: لا تغفل سراج أبو دنان يا لمذن افطن تهاون فيه هذا الودك مشتريه فلان عليك شبه وانا أبطفيه ويختم ببيتين عندما شاهد (زير) الماء فيقول: فزعه لوجه الله واجرها مضاعف حفر الدلو وحويط(ن) فيه زيرين نخيتكم يارجال هيا نتكاتف خذو أجر هالبيت والّلي مصلين صورة من وثيقة صبرة الصوّام