التقاعد يعني في النظام الجامعي الحالي التوقف عن كل شيء، وكأن عضو هيئة التدريس لم يخدم الجامعة وطلابها طوال سنوات عمله الأكاديمي، فيبدأ في سلسلة من الإجراءات الروتينية المملة والمزعجة له وكأن قدميه لم تطأ أرض الجامعة من قبل.. تتضمن عملية إعداد عضو هيئة التدريس فترة زمنية لا تقل عن ثماني سنوات من تاريخ تعيينه معيداً في الجامعة، وفي الغالب لا يستفاد من أكثرهم إلا بعد سن الثلاثين. وبعد أن ينخرط في أبحاثه العلمية ويبدأ في اكتساب خبراته الأكاديمية، ويترقى في درجاته العلمية من أستاذ مساعد إلى أستاذ مشارك ثم أستاذ، إلا ويصدمه نظام الخدمة المدنية بالتقاعد أسوة بغيره من موظفي الخدمة المدنية، مع أننا لو نظرنا إلى الخبرات الأكاديمية والبحثية لعضو هيئة التدريس نجد أنها خبرات تراكمية تتزايد مع مرور السنين، فيصبح أكثر قدرة على العطاء، والتحليل وإجراء البحوث العلمية المعمقة. ولهذا فمن الطبيعي أن نجد معظم جامعات العالم لا تضع سناً محدداً لتقاعد عضو هيئة التدريس، بل تستمر في الاستفادة منه بشكل أفضل بعد حصوله على الأستاذية، مما يساعد على رفع سمعة القسم العلمي الذي يعمل فيه، فكثير من الأقسام العلمية تستمد شهرتها العلمية من سمعة وقوة أساتذة القسم فيه. والأغرب من ذلك أن هذا التقاعد يعني في النظام الجامعي الحالي التوقف عن كل شيء، وكأنه لم يخدم الجامعة وطلابها طوال سنوات عمله الأكاديمي، فيبدأ في سلسلة من الإجراءات الروتينية المملة والمزعجة له وكأن قدميه لم تطأ أرض الجامعة من قبل، فعليه أن يستعد لتسليم كل متعلقاته التي تربطه بالجامعة، فما بين قائمة إخلاء الطرف الطويلة، إلى مطالبته بتسليم جميع ما يثبت كونه كان في يوم من الأيام عضو هيئة تدريس وحتى بطاقته الجامعية، وبطاقة موقف السيارة، أو أي بطاقات أخرى تثبت انتماءه للجامعة، ويشمل ذلك استفادته من مكتبة الجامعة، وقواعد المعلومات التابعة لها. وإلغاء إيميله الجامعي، وكأنهم يطالبونه بقطع كل أسباب التواصل بين الجامعة وبينه، وتسليم هذه المتعلقات شرط لرفع أوراقه إلى المؤسسة العامة للتقاعد. وعملية التقاعد بالرغم من ضرورتها لضخ دماء جديدة في أي مؤسسة حكومية، وتفهم ضرورة تسليم عضو هيئة التدريس للسكن الجامعي ليستفيد منه الآخرون إلا أن طريقة التقاعد في جامعاتنا تتم بطريقة لا تحمل أدنى تقدير لعضو هيئة التدريس، فلا حفلات توديع، ولا رسالة شكر، ولا حتى خطاب مجاملة بإمكانية الاستفادة منه لاحقاً كمستشار أو مشرف على طلاب الدراسات العليا، ولعل أول من يتناساك هو القسم العلمي الذي عشت بين أروقته سنوات طويلة، وأسهمت في تخريج الكثير من أساتذته طوال سنوات عملك، وكأنك لم تكن يوماً جزءًا من حياتهم اليومية. وهنا تساؤل أو اقتراح، ماذا يضير لو أن الجامعة استحدثت إدارة أو قسماً في عمادة شؤون أعضاء هيئة التدريس يعتني بالأساتذة المتقاعدين، يصدر لهم بطاقة عضو هيئة تدريس متقاعد، وبطاقة استعارة من المكتبة، ومواقف خاصة بهم، وقاعات خاصة يستطيعون فيها الحضور والاجتماع وتبادل الآراء، ويتم تشجيعهم على المشاركة في البحوث العلمية أو الدراسات الاستشارية التي تنفذها الجامعة، حتى لا ينقطع ارتباطهم بالجامعة وببحوثهم العلمية التي كانت هي الأساس لترقيتهم ووصولهم إلى الدرجات العلمية. في بعض الجامعات السعودية لا ينقطع ارتباط الطالب بجامعته، فتستمر العلاقة معهم من خلال إدارة الخريجين وإن كانت لم تفعل بشكل كامل.. وفي جامعات أخرى لا يقتصر الارتباط على الطالب فقط، بل يشمل عضو هيئة التدريس، فمثلاً الجامعة التي تخرجت منها بالدكتوراه "جامعة جورج واشنطن" مازلت أحمل بطاقة المكتبة وأستطيع الاستفادة من جميع الخدمات التي توفرها كلما كنت في مقر الجامعة، وتواصلي معهم مستمر، فلماذا لا يحدث هذا في جامعاتنا؟، وهذا ينطبق أيضاً على أعضاء هيئة التدريس فيها الذين لا يلزمون بسن معينة للتقاعد، وحتى وإن انتهى ارتباطهم بالجامعة يستمر التواصل معهم، والفخر بكونهم كانوا في يوم من الأيام من أعضاء هيئة التدريس فيها. نحن بحاجة إلى تقدير أكبر لعضو هيئة التدريس الذي تخرج من تحت يديه المئات من قادة المجتمع، فلماذا لا توجد وزارة التعليم آلية واضحة ومحددة للاستفادة من المتقاعدين منهم، فيطلب منهم المشاركة في الدراسات التي تجريها الجامعة، وإبداء الرأي فيما يستجد على تلك الجهات من إشكالات، وتكليفهم بالإشراف على طلاب الدراسات العليا وخاصة في مرحلة الدكتوراه وفق آلية مكافآت محددة حتى وإن لم يكونوا على ملاك الجامعة. معروف أن نظام التعليم العالي والجامعات الذي تم إلغاؤه مؤخراً ولم يصدر له بديل حتى الآن أعطى الجامعات صلاحية التعاقد مع أعضاء هيئة التدريس المتقاعدين، ولكن آلية التعاقد معهم مجحفة بحق عضو هيئة التدريس صاحب السنوات الطويلة من الخبرة، فنجد الكثير من المميزين لا يحرصون على التعاقد بعد التقاعد.. نريد نظاماً يكفل الاستفادة من أعضاء هيئة التدريس المميزين والمحافظة عليهم لبناء جيل جديد تنتقل فيه الخبرات السابقة إلى الخبرات اللاحقة بشكل سلس ومفيد لبناء مجتمعنا الذي دائماً يتطلع إلى مستقبل أفضل.