عندما أسس العلامة الشيخ محمد رشيد رضا - رحمه الله - مدرسته الإصلاحية المسماة دار الدعوة والإرشاد في مصر، كانت قد جذبت التلاميذ من أنحائها، وكانت مدرسة مباركة، تهدف إلى إحياء الفكرة الإسلامية، ومن هؤلاء التلاميذ الذين انضموا إليها الشيخ محمد عبدالرزاق حمزة، الذي كانت له صحبة مع مؤسس المدرسة ومع أحد أساتذة المدرسة ألا وهو الشيخ عبدالظاهر أبو السمح. ولد الشيخ محمد عبدالرزاق حمزة سنة 1308ه في قرية كفر عامر بمصر، وتعلم مبادئ القرآن والكتابة في مدرسة قريته، ثم انضم بعد ذلك إلى الأزهر، وتخرّج بعد أربعة أعوام، ثم قصد دار الدعوة والإرشاد التي أسسها الشيخ محمد رشيد رضا، ودرس فيها على السيد رشيد رضا وبعض الأساتذة، وعلى رأسهم صديقه وشيخه وصهره الشيخ عبدالظاهر أبو السمح، وكان أبو السمح له دور كبير في توجيه هذا الشاب إلى قراءة بعض كتب ابن تيمية، ومنها كتاب (التوسل والوسيلة)، وقرأ كتاب (الصارم المنكي) لابن عبدالهادي، وهذا الأخير والذي قبله كان له تأثير بالغ وتوجيه قوي إلى الاتجاه نحو قراءة كتب الحديث ومصطلحه وكتب الجرح والتعديل، ثم بعد ذلك حج السيد رشيد رضا ومعه بعض تلامذته ومنهم الشيخان أبو السمح ومحمد حمزة عام 1344ه، فقابلوا الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه-، فعيّن أبا السمح إماماً وخطيباً في المسجد الحرام، وحمزة مدرساً في المسجد الحرام. أهداه الملك سعود «مرصداً فلكياً» على جبل أبي قبيس في مكةالمكرمة مسخراً ذلك في خدمة الدين والرؤى الشرعية سعة اطلاع عُيِّن الشيخ محمد حمزة أول ما قدم إلى المملكة مدرساً في المسجد الحرام والمعهد العلمي السعودي عام 1345ه، وفي عام 1346ه عُيِّن خطيبًا بالمسجد النبوي وإماماً في صلاة الفجر حتى عام 1347ه، وفي عام 1348ه انتقل إلى مكة مدرساً بالمسجد الحرام والمعهد العلمي السعودي، وقال صهره المؤرخ التربوي أحمد علي الكاظمي -رحمه الله- عنه: «دروسه في المعهد العلمي السعودي لم تكن مقتصرة على المواد الدينية، بل قام بتدريس العلوم الرياضية والهندسة والجبر ومبادئ المثلثات»، ويتابع الكاظمي حديثه عن الشيخ محمد حمزة قائلًا: «أما عن دروسه في الحرم المكي فقد استأنف -رحمه الله - نشاطه العلمي الإرشادي في مكة بفتح دروس للعامة بين العشاءين وبعد صلاة الفجر في التفسير والحديث بطريقة غير مألوفة للناس، وذلك بعدم التقيد بكتاب معين، فكان يقرأ الآية ثم يبدأ في تفسيرها بما وهبه الله من سعة الاطلاع وسرعة استحضار أقوال السلف، مكتفياً في ذلك بالصحيح المأثور من الأقوال والروايات، وبهذه الطريقة أكمل مراراً تفسير القرآن الكريم؛ أي إنه أعاد تفسير القرآن الكريم عدة مرات» - ليته كتب هذا التفسير ونشره للناس-، أمّا كتب السنة فقال أيضاً صهره الشيخ التربوي والزاهد عبدالله الخياط - رحمه الله-: «ابتدأ تدريسه في المسجد الحرام في السنة بكتاب (مشكاة المصابيح)، فكان الإقبال على دروسه عظيماً من طلبة العلم الذين لهم اشتغال بعلم الحديث ورجاله وأصوله»، وأكد هذا الكاظمي قائلاً: «وفي الحديث أكمل قراءة الصحيحين وشرحهما على طريقة تفسير القرآن الكريم، وكانت حلقات دروسه ملتقى أجناس شتى من أهل مكة والوافدين إليها ونفر كثير من أهل جدة يحرصون على دروسه كلما جاءوا إلى الحرم، ولم تكن دروسه العلمية تخلو من طرف علمية أو نوادر أدبية دفعاً للسأم وترويحاً لنفوس المستمعين على عادة العلماء الأذكياء». -انتهى كلام الكاظمي-. جبر وهندسة وقال تلميذه الكاتب والمفكر الأديب أحمد عطار: «هو من مشايخي، أستاذي العلامة الجليل الشيخ محمد عبدالرزاق حمزة أحد المدرسين بالمسجد الحرام وأستاذ التفسير والحديث بالمعهد العلمي السعودي عندما كنت من طلبته أوائل الخمسينات، ولم يكن أستاذنا ضيق الذهن، بل كان واسع الذهن، ولم يكن مبرزاً في التفسير والحديث فحسب، بل كان من العلماء في الفقه وعلوم العربية، بل كان يحسن الجبر والهندسة والرياضيات، وإذا أشكل على أستاذ الجبر الذي كان يدرسنا بعض مسائله لجأ إلى أستاذ التفسير والحديث -أي الشيخ محمد حمزة- الذي كان خيراً من الأستاذ الذي يدرسه، ومنذ عرفت الشيخ وهو صديق الكتب لا يفارقها، فقد وهب نفسه كل نفسه للعلم والبحث، وكان شديد الغيرة على ما يؤمن به» -انتهى كلام عطار-. من جانب آخر فإن الشيخ محمد عبدالرزاق حمزة قد قام هو والشيخ عبدالظاهر أبو السمح بتأسيس دار الحديث، وقد افتتحت عام 1352ه، وقد تولى إدارة دار الحديث بعد وفاة شيخه عبدالظاهر أبو السمح واستمر مديراً لها حتى وفاته. سلس البيان ومنذ عام 1345ه والشيخ محمد عبدالرزاق حمزة يدرس ويعلم طلبة العلم كتب الحديث وكتب التفسير للعامة، فكان ما بين المسجد الحرام بالتدريس في المساء وفي الصباح في المعهد العلمي السعودي، لم ينقطع عن التدريس في هذه المدة سوى سفرته للعلاج عام 1378ه إلى لبنان، ثم توقف عن التدريس عام 1385ه بعدما أقعده المرض، فكان تدريسه ما يقارب 40 عاماً، بل إن أكثر أوقاته كانت في الحرم المكي، وكانت له غرفتان بالحرم يخلو بهما وفيهما كتبه. وقال تلميذه أبو تراب الظاهري -رحمه الله-: «كنت آكل عنده مع والدي وأولاده بخلوته في المسجد الحرام، وكان ملازماً لها، وكان جالساً أمام أكداس من الكتب، وخزانة كتبه مبعثرة بين خلوته تلك وخلوة أخرى -الخلوة غرف خاصة في الحرم-، وفي هذه الخلوة كانت نوادر الكتب مطبوعة ومصورة جلبها الشيخ محمد حمزة»، ويذكر أبو تراب الظاهري أن الشيخ محمد عبدالرزاق حمزة يستحق أن يطلق عليه لقب الإمام في الحديث، فهو -رحمه الله- كان آية من آياته حفظاً ومعرفة وإتقاناً لمتونه وأسانيده وتخاريجه وعلله وجرحها وتعديلها، ويلفت أبو تراب إلى موهبة أخرى في الشيخ محمد حمزة وهي موهبة الخطابة يقول أبو تراب: «كان رحمه الله خطيباً بارعاً سلس البيان، وخطب على المنبر تجاه الكعبة المشرفة سنوات غير قليلة»، ويروي أبو تراب عن مدى ذاكرة الشيخ محمد حمزة قائلاً: «رأيته بالطائف وهو مريض على فراش المستشفى كتب رداً على الكوثري، كتب هذا الرد من الذاكرة يناقشه في تصحيح الروايات أدل بها الكوثري». مرصد فلكي وتعلق الشيخ محمد عبدالرزاق حمزة بعلوم الفلك، فقد أهداه الملك سعود حينما كان ولياً للعهد مرصداً فلكياً حديثاً جلبه له من بعض سفراته الخارجية، وكان قد أعد الشيخ محمد حمزة أن يؤسس هذا المرصد على جبل أبي قبيس، يقول الشيخ محمد حمزة عن هذا الموضوع في إحدى مقالاته بجريدة أم القرى: «ولما أردت الانتفاع بها -أي آلات المرصد الفلكي-، ولا بد لها من مكان تطل عليه السماء شرقاً وغرباً، وضاق سطح داري عن ذلك، كتبت إلى سموه الكريم بالرغبة بالأمر السامي منه بإعداد مكان مناسب على ظهر جبل أبي قبيس، فصدر أمره الكريم السامي الواجب الاحترام إلى مقام النيابة الجليلة بتاريخ 23/9/1367ه بإعداد ذلك المكان على ظهر جبل أبي قبيس، حيث تنكشف القبة الخضراء أو معظمها، ولا يفوتنا التمتع بجمالها مع التلذذ برؤية بيت الله العتيق»، ثم إنه رحمه الله في مقالته هذه النفيسة بسط القول في شرح أجزاء هذا المرصد الفلكي الدقيق، وهو بهذا ينقل تجربة مصر التي كان لها مرصد فلكي في حلوان، والشيخ محمد حمزة يهدف من تأسيس هذا المرصد إلى تحديد رؤية هلال رمضان ورؤية هلال شوال وشهر الحج، ومع الأسف فإن تجربة العالم الفلكي لم يكتب لها الاستمرار، ولعله أول من فكر وعمل في تأسيس مرصد فلكي في مكة، ووثقت مؤسسة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية تجربة الشيخ محمد عبدالرزاق حمزة، فهي تجربة فريدة من عالم يعايش عصره ووقته، مسخراً هذا المرصد في خدمة الدين الإسلامي في الرؤى الشرعية. كُتب وتعليقات وألّف الشيخ محمد عبدالرزاق حمزة عد مؤلفات وحقق بعضها؛ منها كتاب (الصلاة)، وهو كتاب مفيد جداً، حشد فيه كل ما يتعلق بالصلاة وأنواعها وأحكامها، وقد طبع سنة 1370ه، وقد طبع عشرات المرات، وكتاب (الإمام الباقلاني)، وكتاب (التمهيد رسالة)؛ حيث جمع بحثه وبحث الشيخ بهجت البيطار والشيخ يحيى المعلمي، ورسالة في الرد على بعض آراء الكوثري وطبع الكتاب عام 1370ه، وكتاب (في الرد على محمود أبي رية)، وهذا الرد من الردود الجيدة، إضافةً إلى أن له تعليقات على بعض الكتب، ومنها: (رسالة التوحيد للإمام جعفر الصادق)، وكتاب (موارد الظمآن إلى زوائد بن حبان)، وتعليقات على الحموية الكبرى لابن تيمية، وكتب (مقدمة طيبة) لكتاب الباحث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث، وقد أورد الشيخ محمد بن أحمد سيد في كتابه القيّم عن الشيخ محمد عبدالرزاق حمزة نماذج من بحوثه الرصينة، ومنها: إتحاف المهرة بالتعليق على حديث من أدرك الركوع فقد أدرك الركعة، وهو بحث نفيس جداً، وله بحث بل رد على المستشرق جولد زيمر على كتابه (العقيدة والشريعة في الإعلام) كتبه الشيخ بمجلة المنهل عام 1379ه، وله بحث قيِّم وعظيم بعنوان (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) من أنفس ما كتب عن العنصرية. تلاميذه ووفاته أمّا تلاميذ الشيخ محمد عبدالرزاق حمزة فكثير جداً، منهم: الشيخ الزاهد الورع عبدالله الخياط، الذي تزوج ابنته وكان له تأثير فيه، والشيخ المحدث سليمان الصنيع -مدير مكتبة الحرم المكي-، فقد لازم شيخه مدة طويلة وقرأ عليه عدة كتب في الحديث، ومنها صحيح البخاري ومسلم وسنن الإمام أبي داود وسنن الترمذي، وقد استفاد الشيخ الصنيع من هذه الملازمة، وأصبح عارفاً بالحديث، أيضاً الشيخ أبو تراب الظاهري أحد من تتلمذ عليه وأخذ عنه، يقول: «سمعت عليه جامع الترمذي، فكنا إذا قرأنا السند أورد من ذاكرته ترجمة كل راوٍ وما قيل فيه جرحاً وتعديلاً»، ومن تلاميذه الشيخ الفقيه المحقق العالم محمد بن سليمان بن بسام، قرأ عليه «فتح الباري»، واستفاد منه في الحديث، وكان الشيخ ابن بسام يثني على شيخه في علم الحديث، وعندما أقعد المرض الشيخ محمد حمزة، كان الشيخ محمد بن بسام من وفائه للشيخ يزوره في منزله؛ لأنه عندما أقعده المرض انطوى عن الناس، وأصبح قعيد منزله، وأصبح مشتغلاً بتلاوة القرآن ويقرأ الكتب. هذه سيرة ومسيرة هذا العلم، أحد أساطين علم الحديث، أفنى حياته في نشر العلم النافع في المسجد الحرام رحمه الله مدافعاً عن السنة النبوية بكل ما يمكن من علم. توفي الشيخ محمد عبدالرزاق حمزة يوم الخميس 22 صفر عام 1392ه، وصلي عليه صلاة الجنازة بالمسجد الحرام. وقد استفدت من كتاب الشيخ محمد بن أحمد سيد المدرس بدار الحديث الخيرية، الذي ألف كتاباً قيِّماً عن الشيخ محمد عبدالرزاق حمزة، رحم الله الشيخ محمد بن أحمد سيد، وجعل هذا الكتاب في ميزان حسناته. جبل أبي قبيس الذي أقيم عليه المرصد الفلكي محمد عبدالرزاق حمزة المؤرخ أحمد الكاظمي عبدالله الخياط زوج ابنة محمد حمزة