لقد حان وقت الانصراف.. وكل شيء آخر سيحين موعد انصرافه.. وما أرجوه أن أكون قد تركت أثراً إيجابياً ولو كان بسيطاً في مشهد عقدين من الحياة، للقارئ أن يقوم مسارهما وعطاءهما.. وله أن يعفو عن الخطأ أو الزلل. أستودعكم الله. منذ عشرين عاماً، لم تتوقف مقالتي الأسبوعية عن صفحة حروف وأفكار في "الرياض"، وقبل ذلك في صحف أخرى. واليوم أوجه رسالة للقارئ في ساعة قرار اخترته، سواء أكان قراراً بتوقف مؤقت أم في مشهد يسدل الستار على مرحلة بأكملها. كان قراراً صعباً على من أصبح يوم الاثنين من كل أسبوعين طيلة عقدين، موعداً لمصافحة قارئ كثيرًا ما كان يجهله، ولكنه يدرك قسماته وملامحه ويفهم لغته وإشاراته حتى لو لم ينبس بكلمة. كان قراراً صعباً أن أتخلى عن موقع وحيز أخاطب فيه قارئاً لا أراه ولا أسمعه، ولكن ظل النبض يدفع بلا كلل نحو الاقتراب من مشهد عام، قراءة ومعالجة، وكثيراً ما كنت محفوفاً بالقلق والتحسب. كان قراراً لا بد أن يأتي، فالعمر مراحل، والعطاء ابن مرحلته، والتدافع في سلم وصراع الأفكار ليس فتحاً سهلاً.. كان دخولي في عالم الكتابة الصحفية في الشأن العام، سواء أكان سياسياً أم ثقافياً وفكرياً.. ثمرة إلحاح داخلي لعقل يريد أن يقول ويكتب ويخوض غمار الأفكار والتحولات والرؤى. لم آتتِ من بيت الصحافة ولا من علاقاتها وحضورها.. جئت من عالم آخر، لم أتحسب فيه لقيد التخصص العلمي الدقيق "الفيزياء" ولم ترتبك خطواتي وأنا أشق طريقي في عالم للتو بدأ يتساءل من يكون؟ ومما ساعد على ذلك أن البداية كانت في صحيفة دولية، حطت في أماكن كثيرة، وكان اسمي مجهولاً لكثير من القراء والمتابعين. كانت بعض المقالات التي تنشر جنباً إلى جنب بجوار كبار كتاب العالم العربي في تلك الصحيفة تجد طريقها إلى بعض الإذاعات الدولية الناطقة بالعربية. وكانت كذلك تجد طريقها للنشر في صحف عربية أخرى.. ولم تأخذني الغرابة عندما بدأت تأتيني العروض للكتابة في صحف محلية، فقد أدركت أن الاعتراف بي كاتباً لتدعوني الصحافة المحلية دون قيد أو شرط، إنما يدعمه الاعتراف الخارجي.. وما زلت أتذكر كيف كنت أحاول النشر في بعض الصحف المحلية دون جدوى، وذلك قبل أن تكون بوابة التعريف بي صحيفة دولية يقتنص محرروها ما يعزز حضور الرأي في صحيفتهم.. وعندما دعتني "الرياض" الصحيفة، تحت عبارة لافتة ما زال يتذكرها "سمننا في دقيقنا" شكرتهم أن يعترفوا بالسمن لكن عليهم أن يهيئوا الدقيق جيداً. ومرّ عقدان أو يزيد.. وأنا في موقع الحرف والفكرة.. وفي ممارسة عرفت دهاليزها لتمرير فكرة أو موقف دون إحراج الصحيفة. وجاءت مراحل تميزت بسعة الطرح وجرأة المعالجة، فقد كان هناك من يحاول ويحاول ألا يتوقف عند حدود خطوط لا يعرف لها ألواناً، وقد تكون أحياناً أقرب للأوهام والمخاوف غير المبررة. لم أعد نفسي يوماً كاتباً يعلق على يوميات حول أداء قطاعات هنا وهناك. كان شغلي الأفكار، فقد آمنت أن الأفكار هي من تصنع المستقبل.. وأن كثيراً من الخلل لا تعالج ظواهره عبر تلك التعليقات أو المقالات، وإنما الأجدى اكتشاف جذوره ومنابته وقدرته على إنتاج نفسه في كل مرحلة. وعندها يمكن معالجة الخلل من جذوره.. وليس فقط مجرد تعليق على ظواهر سلبية لا تتوقف. وعندما رأيت أن الوقت حان للانصراف، فأنا أومن أن الحياة مراحل، وكل مرحلة تحمل معها معطيات وإمكانات وطاقات وأحلام وأمنيات.. فمهما كان الموقع عزيزاً والبقاء جميلاً ومغرياً، إلا أن قانون الحياة أقوى.. والانصراف قرار لا بد من مقاربته.. سواء أكان مؤقتاً أم دائماً. ومن المؤكد ثمة عوامل تدفع الكاتب للانصراف، إلا أن من أهم تلك العوامل، ذلك النابع من تقدير الكاتب نفسه لمعنى الاستمرار.. وهذا عامل تحوطه عناصر كثيرة.. تبدأ من قناعة الكاتب بدوره، ومعنى بقائه، ولا تنتهي بدور الصحيفة، ولا بالتطورات الأخيرة التي طالت الصحافة برمتها.. لا أعرف عدد القراء أو المتابعين، إلا أنه مهما كان عددهم ومهما كانت انطباعاتهم.. فهذه الرسالة موجهة لهم تقديراً واحتراماً. ألا يستحق عقدان من الزمن رسالة لمن كانوا السبب في وجود الكاتب وسواه.. ولو افتقد الكاتب قارئه، فهل كان له أن يشعر أن ثمة دوراً يستحق. لقد حان وقت الانصراف.. وكل شيء آخر سيحين موعد انصرافه.. وما أرجوه أن أكون قد تركت أثراً إيجابياً ولو كان بسيطاً في مشهد عقدين من الحياة، للقارئ أن يقوم مسارهما وعطاءهما.. وله أن يعفو عن الخطأ أو الزلل. أستودعكم الله.