إن الحميمية التي تمنحها الكُتُب والمكتبات من بهجة الملامسة وجذل الحواس تبقى الرهان الأمتع والأجمل لتلك العلاقة المائزة والمبهجة بين القارئ والكتاب الورقي؛ ولذا فمُتعة التصفّح للورق وتقليب الصفحات تعزّز جمالية العلاقة والتعاطي مع الكتب المنتصِبة على رفوف المكتبة.. بعيداً عن جدليّة المفاضلة بين الكتاب الورقي والإلكتروني، وما تفضي إليه تلك التجاذبات والآراء التي تحاول الانتصار لقناعاتها؛ لكنّ ثمّة حقيقة لا يمكن المزايدة عليها، وهي أن الحميمية التي تمنحها الكُتُب والمكتبات من بهجة الملامسة وجذل الحواس تبقى الرهان الأمتع والأجمل لتلك العلاقة المائزة والمبهجة بين القارئ والكتاب الورقي؛ ولذا فمُتعة التصفّح للورق وتقليب الصفحات تعزّز جمالية العلاقة والتعاطي مع الكتب المنتصِبة على رفوف المكتبة وبشكل يجعلنا نجد مبرّراً ومسوغاً لذلك الكاتب الذي اعتبر أنّ من ينشر مراسلاته الإلكترونية ورقياً لا يزال يساوره الاعتقاد بأن الوسيلة الورقية أبقى وأكثر حسيّة من الوسيلة الإلكترونية، فهي تُشرك مزيداً من الحواس في متعة الكتابة والقراءة؛ إذ بمقارنة حسيّة حفيف الورق وصرير القلم الخافت عليه بالتكتكة الرتيبة للترقين الآلي وبتحسّس ملمس الورق ونحن نقلّب الصفحات ونشمّ رائحة ورق المجلات والكتب، حديثها والقديم، نستشعر متعة أجمل وأفضل. ويبالغ في حماسه للكتاب الورقي ويشير بالتقاطة فطنة للقارئ وينبّهه بنبرة تحذيرية قائلاً: لا يجب عليك كقارئ للكتاب الورقي أن تستخف بالنشوة العابرة المتولدة من رائحة كتاب خارج للتو من المطبعة تتفرع منه روائح حبر وصمغ وخشب. لا أحد يستطيع تجاهل المتعة البصرية والدلالة الجمالية والقيمة المعنوية للمكتبة التي تحتلّ مكانها الأنيق في المنزل؛ فالشعور الذي تمنحه المكان ووقار اللحظات وجلال النّظر لأرففها يكسو الوجود مهابة ويشي بأنّ ثمة أرواحاً وعقولاً وقلوباً تصطفّ وتتراصف بجوار بعضها البعض دالّة على تعاقب حضارات وأفكار وقيم ومنظومات فكرية وفلسفية وأخلاقية لعقول غابرة منحت عصارة خبراتها ومعارفها وتجاربها وقدّمتها في وعاء أنيق جاذب أمين وحاوٍ لخلاصة جهد فكري وثقافي خلاّق وخالد. هذا بعض من أثر المكتبات ورمزيّة وجودها في المنازل والمراكز البحثية وغيرها من الأماكن التي تنظر للكتاب الورقي كقيمة فكرية وحضارية وإنسانية وثقافية ووجودية. لا مراء في أنّ القراءة أحد أهم روافد التغيير الشخصي الذي يسعى إليه عالمنا المعاصر، حيث تساعدنا على تنظيم شأننا الشخصي وإدارة إمكاناتنا الخاصة تحت مظلة تقدم حضاريّ يتيح لنا فرصاً عظيمة لا تتطلب المال بقدر ما تحتاج للمعرفة والكفاءة الشخصية التي تكتسب بالتعلم الذاتي عن طريق البحث والاطلاع والقراءة، والمكتبة في المنزل ومجاورة الورق هي الطريق الأجمل لتحقيق هذا العمل والهدف الخلاّق. في كتاب «متعة القراءة» لدانيال بِناك عبارة لافتة تكشف أهمية المكتبات كعنصر وجودي وكيان ثقافي مهم إذ تقول: يا أعزائي أمناء المكتبات، أنتم حرّاس المعبد، شيء سعيد أن تجد كُلّ كُتُب العالم أماكنها في ذاكرتهم المنظّمة بدقّة (فلولاكم كيف كنت سأهتدي، أنا صاحب الذاكرة السيئة كأرض غير مفلوحة؟)، وشيء رائع أن تكونوا على علم بكل الموضوعات المرتبة على الرفوف المحيطة بكم...لكن سيكون من المستحسن أيضاً أن نسمعكم «تحكون» رواياتكم المفضلة لزوّار المكتبة التائهين في غابة القراءات الممكنة... كم سيكون الأمر جميلاً لو أنكم تتفضّلون وتقصّون عليهم أفضل ذكريات قراءاتكم! كونوا حكواتيين سحرة وستقفز عندها الكتب من رفوفها لتحطّ في أيدي القرّاء. أيضاً لعل من المفيد استدعاء رأي عميق للروائي والكاتب الأميركي هنري ميللر أورده في كتابه الرائع عن الكتب في معرض تقديمه لكتابه، وتساؤله المهم لأهمية القراءة والكتابة فيتساءل ميللر: ما الذي يجعل كتاباً ما يبقى حيّاً؟ كم من مرة طرح هذا السؤال؛ والجواب في اعتقادي، بسيط، الكتاب يبقى حياً عبر التوصية المُحبّة التي يقدمها قارئ إلى آخر. لا شيء يمكنه أن يخنق هذا الحافز الأساسي عند الكائن البشري. وعلى الرغم من آراء الساخرين وكارهي البشر، اعتقادي هو أن البشر يكافحون أبداً للتشارك في أعمق تجاربهم. ويختم بعبارة جميلة ترسخ هذه القناعة فيقول: كلما كان الإنسان راقياً يتشارك بشكل أسهل مقتنياته العزيزة، وكتاب يتمدّد بتكاسل على رفّ هو ذخيرة ضائعة سدى. وبرغم كل ما تقدّم من انحياز للكتاب الورقي إلاّ أنّه لا يمكن تجاهل الكتاب الإلكتروني ومزاياه العديدة التي لا يوفّرها لكن يبقى للورقي سحره منذ اختماره كفكرة في ذهن صاحبه حتى الدفع به للمطبعة وخروجه نابضاً بفكر مؤلِّفه مروراً بإهدائه لمن يرغب من أصدقاء ومهتمّين وصحف وغيرها مما يندرج في دورة الكتاب وتلك الظلال الجميلة من العلائق التي يثيرها تنقّل الكتاب بين الأيدي والأماكن وهو ما لا يتيحه الكتاب الإلكتروني. الحديث عن الكتب والمكتبات ذو شجون كما يقال ولعلّ سانحة أخرى تتيح الحديث بشكل مُحِبّ لهذه القيمة والمتعة الفكرية والجمالية والإنسانية لهما، وإن كان الحديث يبدأ ولا ينتهي فالمكتبة والأوراق ليست بمعزل عن الحياة التي يشهدها عابر الطريق ويحسّها كل من يحس في نفسه بخالجة تضطرب وقلب يجيش وذاكرة ترنُّ في أصداء الوجود كما يرى عملاق الفكر والأدب عباس محمود العقاد.