لم تكن معارك الهجاء التي تندلع بين شعراء القبائل قبل الإسلام في حاجة إلى أسباب كبيرة، فكلمةٌ واحدة كفيلة بإشعال معارك طويلة وشرسة من الهجائيات التي لا تضع أوزارها إلا بعد سقوط كثير من الضحايا. وإذا كانت معظم النار من «مُستصغر الشرر»، كما يُقال، فإن الهجاء أيضاً يصدر من الشعراء في كثير من الأحيان لأسباب صغيرة وتافهة لا تستحق الالتفات لها وإشغال النفس بها. وقد روى الأصفهاني في «الأغاني» خبراً يُشير إلى أحد الأسباب الشائعة لاشتعال نيران الهجائيات في الماضي والحاضر أيضاً، فقد كانت العصبية تدفع قوماً من العرب للاجتماع في مكان يُسمّى «صفي السباب»، ويصف الأصفهاني ذلك الاجتماع بعبارة قصيرة تختصر لنا النتيجة المشؤومة التي يؤدي إليها، فعندما يجتمعون «يفتخرون ثم يتشاتمون ثم يتجالدون بالسيوف»! وفي كل زمن يوجد شعراء يفضّلون الهجاء على سائر الأغراض، لا لأنه غرضٌ مُهم قد يضطر إليه الشاعر اضطراراً؛ ولكن لإدراكهم أنه أسرع طريق للوصول إلى الناس، وإلى انتشار القصيدة على نطاق أوسع. وقد أورد ابن قتيبة خبر أحد أولئك الشعراء وهو «البردخت» الذي جاء إلى جرير فقال له: «هاجني. فقال له جرير: ومَن أنت؟ فقال: أنا البردخت. قال: وما البردخت؟ قال: الفارغ بالفارسية. فقال له جرير: ما كنتُ لأشغل نفسي بفراغك». وربما أراد واضع هذا الخبر، أو ناقله، التلميح إلى أن الاتجاه المبالغ فيه للهجاء أو افتعاله من دون داعٍ قوي دليل على وجود «فراغ» أو «نقصٍ» لدى الشاعر، أمّا العقلاء من الشعراء فيحرصون دائماً على الابتعاد عنه قدر الإمكان، يقول الشاعر سعود بن فراج بن شاهر في بيتين رائعين: ياما جرى لجل الخطأ من قصيدة أقولها وتموت ما شافت النور وش عاد لو للسب معنى وأجيده ماني على سبّ المخاليق مجبور في هذين البيتين تأكيدٌ على حقيقة لا تخفى على المبدع العاقل؛ وهي كثرة دواعي الهجاء، والأمور التي تُحرّض عليه، لذلك ينبغي للشاعر مقاومة الرغبة في الهجاء بتجاهل تلك الدواعي وعدم الاستجابة لها. ويجد الناظر أن كثيراً من الشعراء يتفقون مع مضمون البيتين السالفين في اتجاههم الواضح لإسقاط قصائد الهجاء من دواوينهم أو التخلّي عن فكرة نشرها بتركها حبيسةً الأدراج، فهُم على يقين تام بأن قيمة معظم قصائد الهجاء تزول بزوال الأسباب التي دعت إلى نظمها، إذ تصبح قصيدة الهجاء بعد وقت من نظمها أشبه ما تكون بهجائيات البردخت المفتعلة والفارغة من أي قيمة أدبية. أخيراً يقول محمد الذرعي: لا تنشديني عن الزاير من أصحابي ما شفت أحد ب انعزالٍ به تسبّبتي في غيبتك ما طرق غير المطر بابي لين أنبت الشوق في سمعي وف عتبتي مدري فقدت الشعور بغيبة أحبابي؟ مدري خذيتي معاك العالم وغبتي؟