نُطالب الشعراء في أحاديثنا وكتاباتنا بالمثالية وبأمر يستحيل تحققه حين نطالبهم بالابتعاد التام عن النظم في غرض مُهم كغرض الهجاء، مع أن الشاعر قد يجد نفسه مُرغماً على خوض بحر الهجاء المحفوف بالمخاطر بدوافع كثيرة ومُسببات لا يد له فيها، وأبرز ما يلفت النظر في شعر الهجاء أن أكثر الشعراء ميلاً للسلام والمُهادنة لا تخلو تجاربهم من قصائد هجائية، وأن نجاح قصيدة الهجاء وشيوعها لا يعود لقوة نظمها وبراعة شاعرها بقدر ما يعود للطريقة التي يتم فيها تلقيها من قِبل الشخص المهجو. فكثير من القصائد الهجائية اشتهرت بعد الرد عليها بقصيدة أخرى أو القيام بإجراء مُعين ضد شاعر القصيدة الأولى، خلافاً لقصائد الهجاء التي يتم تجاهلها من باب: (إماتة "الهجاء" بالسكوت عنه) لتمر مرور الكرام ولا يجد المتلقي بعد ذلك أي فضول أو رغبة تدفعه للبحث عنها، وأود أن أُشير في السطور التالية لطريقة تُعد من أغرب طُرق تلقي شعر الهجاء وأندرها وهي أن يتلقى المهجو قصيدة الهجاء بإعجاب أو أن يحفظها أو يتحدث عن تأثيرها القوي في نفسه بوضوح وشفافية. يفترضُ كثير منّا أن الهجاء يستوجب نتيجة واحدة وحتمية وهي حدوث العداء والقطيعة بين الطرفين، مع أن هذا الأمر قد لا يحدث دائماً بدليل وجود حالات تستمر فيها العلاقة بعد الهجاء كما حدث في حالة جرير والفرزدق، وقد كان جرير أيضاً يحفظ بعض القصائد والأبيات التي هُجي بها ولا يجد حرجاً في الاعتراف بشدة تأثيرها عليه، إذ يُروى أن بلال بن جرير قال: "سألتُ أبي: أيُ شيء هُجيت به أشد عليك؟ قال: قولُ البعيث: ألستَ كليبياً إذا سيمَ خُطّةً أقرّ كإقرار الحليلةِ للبعلِ كلُ كليبيٍ صحيفةُ وجههِ أذلُّ لأقدام الرجالِ من النعلِ ويروى أيضاً أن محمد بن يزيد النحوي كان يقول في سياق حديثه عن أحد الشعراء: "لقد هجاني ببيتين أنضج بهما كبدي"، وكان لا يرى حرجاً في ذكر الأبيات التي هُجي بها..! وفي ساحة الشعر الشعبي قد يكون الشاعر المعروف مانع بن شلحاط هو الاستثناء والشاعر الوحيد الذي امتلك الشجاعة في التعبير عن استحقاقه لبعض الهجاء الذي تعرض له، وصرّح في أكثر من لقاء إعلامي معه عن إعجابه الشديد بقصيدة قيلت في هجائه وبمدى براعة مُبدعها، وهذا أمر نادر الحدوث لأن الإنسان بطبيعته يميل لتقبُل المدح حتى لو كان كاذباً ورفض الهجاء بكافة أشكاله ودرجات صدقه. أخيراً يقول المبدع راكان بن بدن: يا غايتي والجو نص إستوائي لا تبخل بشوفك إذا غيّم الجو فرقاك تجبرني أصير انطوائي وإن جيتني كن العرب كلهم جو