مفهوم الثقافة يشمل التراث المعنوي والمادي، والآداب والفنون، والصناعات الثقافية، بصورها الفردية أو الجماعية، وتشابك أدوار مؤثرة، في تأسيسها أو تلقيها أو صناعتها أو إنتاجها أو تنفيذها، مثل: المؤسسات التعليمية والتربوية، والإعلامية، والإنتاجية، أو الراعية أو الموجهة أو المتنفذة، وأماكنها، وأسواقها ومنصاتها، وأراشيفها. إن المفهوم متغير وليس صلباً، فنحن نتعامل مع مادة مرن أو سائل، له من الصور والأشكال، عديد ومختلف، ولا يمكن حصره أو القطع في صفته. إذا كان للآداب معبرها الدائم في الكتاب، فإن معضلتها لا تبدأ عند المطابع ولا تقف عند ناشر ولا تنتهي عند تسويق، كما أن للفنون معبرها السمعي والمرئي، فهي متنازع عليها من مؤديها مروراً في إمكانية إخراجها أو إنجازها وصولاً إلى محطات إذاعتها أو عرضها. وحين جاء الفضاء الرقمي، أيسر الحضور بالتداول والتناقل، فهو معبر بديل، لا دخل له في أصل الصناعة أو الإنتاج، ولا آلية التوفير أو التسويق، ويتجاوز عوالق الواجبات والحقوق، بين صاحبها الأصيل، وشريك الصناعة أو الإنتاج. إذ استطاعت الآداب أن تجعل من الصحافة ورقيها ورقميها، مجال العرض المتفرق، أو العابر، في مقابل أن الكتاب بصفته المادية، منتهاه وأرشيفه. مثلما تمكنت الفنون أن تجعل من الشاشة أو الشبكة، مجال بثها أو نقلها، أو تداولها، في مقابل أن الشريط أو القرص، بالصفة المادية، مخزنها ومسكنها. وتتشارك كثير من ثقافات المجتمع في صناعاتها أو نتاجاتها، وتبعاً إلى مجموعة من الظروف، وتباين الفاعلين في المجال أو الحقل، وتفاوت الهيمنة في المؤسسات أو الأنظمة، فإن حدوث خلل في السياق يوجد مسارات متعددة في صناعة الثقافة أو إنتاجها، بين التقليدي أو الرسمي، وبين الهامشي أو الفرعي. ويمكن أن يحدث هذا الخلل، فارقاً إيجابياً، وليس سلبياً في صورة كلية، لأسباب لا تبقى عند صراع الأجيال، ولا تنتهي أعقاب أحداث جسيمة، ما يولد حيوية في المشهد الثقافي وفاعليه وإنتاجهم. وربما تتشابه بعض الصعوبات عند أجيال متعددة، في مجتمعات مختلفة، فيؤثر على صور التمرد والتجدد أي إعادة فرز العناصر الحية عن الميتة واستثمارها. وقد حدث خلال عقود متباينة، في المجتمع السعودي، أن اختفت مواهب أدبية أو فنية، في عقد الستينات وعقد الثمانينات، بعد قصيدة وليس ديواناً، وأغنية وليس أسطوانة أو شريطاً، ولوحة لا معرض، فخلق هذا فراغاً أو فجوات تآمرت عليها نفوس مريضة. كأن الثقافة تأكل نفسها، كأنها لن تكون. ربما تُفْتح صفحة أخرى، تملأ فراغنا وتردم فجواتنا، ربما..