تستهويه المدينة، ويستهويه أن يذرعها وحيدًا في المساءات. طليقا تعوي قدماهُ في الفضاء، والعينان تمسحان الناس والواجهات. من شارع إلى زقاق وزَوارِب وعَطْفة...، إلى فاكهة التوقّف حينا على قارعة السابلة لاستنشاق الهواء أكثر، ونقاهةٍ سريعةٍ لِقَدمَيْن هدّهما الصعود. أحبّها مُذ اكتشف سِحرَهَا الخرافيّ، وحبُّها فيه الآن أكبر كأنه يودّعُها في الهزيع الأخير من الجامعة؛ كأنّها تُثنيه عن الرحيل وتمسح عن صدره غيمةَ الفاجعة. يقول لها: «هل تذكرين حين جئتك على صهوة حلمي المُبلّل برذاذ الخيبة القاتمة ؟. تقول له: كم مِنْ آخرين قبلك مَرُّوا فَعَلّمْتُهُم أبجديّةً سِرّي الدائمة؟». هل كانت وصاياكِ لي غير تعاليم تأخذني إلى النهايات الكالحة؟، يقولُ: «كُنتُ لعِشْقِك الخرافي الصّغير كالضرّة الصالحة» تضحك. ويعْبِس حين تقولُ ما نقولُ، وفكرةٌ في رأسه تجول عن حكمة جدّة دَالَتْ ومدينةٍ صالت كي ترِث الوصية عنها في لحظة جارحة. لم يتخيل بعدُ كيف لِفَاسَ أن تُمسِي محضَ ذِكرى عابرة. يتحايل في خياله على سؤالِهِ ما استطاع ويؤجّل الخاطرَة. يَعْرف أن نِداءَ الحمراء أصرَخْ، ومكان القلب فيها أشْرَحْ؛ لكنَّ رُقيّة/ الياقوت رحَلتْ وتركَتْ على ملاءة سريرها ألف أحجيّة يتيمة، ولم تترك في مراكش مَنْ يُولِمُ للنفس بعدها وليمة. أمّا أبو العباس، سيّد حرّاس الحنين إلى الطفولة، فمات في القلب من زمن وأسدل على الحيّ رميمه، وقليل من الأصدقاء تبقّى في الحمراء، وأضعافهم عرفتُهم في فاس ورافقوك في القافلة، وفيهم من قاسمُوك العطش والرُّعب والرّغيف والضرَّاء والاختفاء عند الضرورة بين السابلة. فماذا أنت فاعل مع الذي يقضُّك؛ وماذا أنتَ تَملك أمام النَّازلَة؟ لم يتخيَّل بعد كيف يُغمِدُ النسيان في أمْسِه وكيف يُسرج للبعيد الرّاحلة! كثيرًا ما يُسأل نفسه: مادام المكان مُطلقاً ومَقُولَهْ، لماذا لا تجتمع المدينتان في واحد وتَخفُّ الحمُولة؟ لو كان للمدينتين أن تتّحدا لَكُنْتُ آخر فارس من ربيعة، لكنك من عُشاق بني عامر تعشَق المرأة وتَهوى الطبيعة. ويقول في نفسه: سلاماً أيها الزمن شريفاً كنت أم رضيعاً. يتذكرُ فجأةً أنه لا ينوي الخديعة وأن المدينتين منفصلتان في قَدَرِ المكان وإن وحّدتْهُما فيها - لِبُرهَة - خاطرة سريعة. ربما تأخّر الرحيل قليلاً، ربّما أَمْهل، لكنه آزِفٌ يومًا: أخلَفَ موعدَهُ وما أهْمَل. عبدالإله بلقزيز