نجيب الزامل - الاقتصادية السعودية .. أكتفي اليوم بترجمة مقال للكاتب ""تشارلي بروكر"" من ""الخليج ويكلي""، بعنوان : ""استأصِلْها!"": "" لا مفر! يجب أن أعملها. لا بد أن أقضي على علاقة العشق العنيفة من التعلق والعذاب والكره والمقت.. والموت. يجب أن أنهي مسيرة الألم. التدخينُ يا أصحابي أغبى ما يمكن أن يفعله الواحدُ منا لجسدِهِ الوحيد.. على الإطلاق. وكأنك ترمي جسدَك المسكين من على متن مركبٍ يخوضُ العبابَ.. لتتركه يغرق وينازع، وهو يصارع رهبة َالأمواج.. وأنت تراقب. وليت أن التدخين يكتفي بجعل أصابعَك زرقاء، وأسنانَك بلون الصدأِ الكالح، ولكنه يحول رئتيك إلى اللون القاتم الأسود. أدركتُ أني أطفئ أعقابَ سجائري المتجمرة بلون جهنم في رئتَيْ اللتين كانتا يوما نسيجاً حريرياً بلون اللِّيلِي الخجول.. أقولُ: كانتا! كنت أمارس تعذيباً يومياً لجسدي، وكأني أعتى الأزلامُ والجلادين، بهذا النفخ التنّيني الذي لا يهدأ، ببلعِ النارِ لتسيل حِمَماً بين في عروقي. لقد تحولَتْ رئتاَي بعد الجلد الناري لسنوات إلى كيسَيْ ورق مهترئتين، تتصافقان بارتخاء، وتتدليان كثمرتين جافتين معصورتين للنهاية.. ولم يبق إلا أن يكونا كما صار لصاحب لي- بل لعدة أصحاب- كفطيرةٍ متعفنةٍ محشوة بالأورام والإسفلت المتفسخ.. كان يجب أن أقف.. أنتشل جسدي الذي كنت ألوِّحُ به وسط أعاصير الموج، أعيد اللونَ البائد لرئتَيْ المتغضنتين، أو بكلمةٍ واحدة: أعيد الحياةَ إلى حياتي. فقد كدت أصبحُ جثةً متقيّحةِ تمشي على قدمين! ولكن.. فشلت. سنوات من المحاولات طارتْ كغبار سجادة قديمة أدراج الرياح. أهرب منها لتعود إليّ، أو أعود إليها، وهي تعوي كذئبة جائعة لشرب دمي ومضغ نسيج رئتَيْ الغض، وكأني استمرَأتُ أن تأكلني الذئبة.. وأن تنهش لحمي وتهتك بأورِدَتي بأنيابها، وأنا أمسِّدُ اللحمَ وأتبِّله وأقدّمه شهيّا لها ، نعم لحمي أنا.. فهنيئاً مريئاً يا ذئبتي. لقد فشلتُ.. إنها علاقة العشق القاتل، أقوى أنواع العشق يا أصدقائي؛ لأنه مضاف إليه عنصر يقوي من تماسكه وهو الإدمان، عشقٌ وإدمان علاقة تتعدّى ما عرفناه من ملاحم الحب الخرافي والحقيقي. إن العشيقة المستذئبة التي لا تكتفي بمصِّ دم عشيقها حتى آخر قطرة، وتتطلع بظمأٍ حارقٍ للمزيد من الدم. وأعجبُ لحال مَن يرفع السيجارة الأولى بحثاً عن المتعة والسلوى، وأشعر بالدمع الكاوي ينهمر مني أسفاً وحزناً وكمَداً عليه، وا أسفاه على هذه الشفاهِ الطازجة المتوردة بالحياة تستقبل بلهفة الذئبة الجمرية لتبدأ بنفسها كتابة ملحمة َعذابها، وتشد رحال العمر قصيراً إلى رحلة النهاية المليئة بكمائن الانسحاق والقرف والمهانة.. أمام ماذا؟ مجرد لا شيء، جماد بلا عقل.. إنه نداءٌ غبيٌ أحمقُ لجمرةٍ من السرطانات والقار والسخَم الأسود بلون المستقبل الذي سيصنعونه معاً. المبتدئُ والسيجارة، تراجيديا سوداء أعرفُ نهايتها من أول نفخات البداية. ولكن هل أمنعه؟ هل أتدخل لإنقاذه؟ لا أظن، فقد انتهى مني نفَسُ الإنقاذِ، صرفته على نفسي بلا طائل.. ها أنا أرى بشرتي تزيد في التغضّن، وخلايايَ تتقصفُ من الجفاف، وجلدي يتحول إلى لون عدمي رمادي مرشوش بغبار البراكين. كيف لهذا الوجه الذي نُحِتَتْ به تعابيرُ من به إمساك عسير ومزمن أن تكون له الشهية لأي شيء.. إلا شهية الأذى، ومتابعةٍ كسيرة، وانقيادٍ مثل انقياد الرقيق المسحوب بسلاسل وراء النخّاسةِ التي لا تعرف معنى لحرية وصحة الحياة. إني واحد من المسخوطين على الأرض، من مساخيط رقّ السيجارة.. يا لبؤسي، يا لبؤسنا! أهجر معذِّبتي أياماً، وأسابيع أحياناً، ولكني أعود زاحفاً على بلاط ديوانها الأسود ذي الرائحة العطنة مستجيراً بنارها.. مخيلة مخترعي أساطير العذاب الإغريقي لو عرفوا مقدار العذاب والألم المزمن الذي تؤديه السيجارة لرفعوها بفخرٍ لمقام رئيس آلهة الأولمب ""زيوس"" العظيم. إن السيجارة هي السجنُ الذي يهرب مدمنها منه.. إليه! وعندما خطبت محبوبة فؤادي، كذبتُ وأخبرتها أني لا أدخن - ليس كذباً كاملاً فقد كنت وقتها ضمن محاولاتي للتوقف - ولما تزوجتُ، صرت أجد الأعذارَ كي أخرج أمجّ سيجارة ًبالظلام، أو مختفياً كخنفساءٍ وراءَ ركنٍ، ولا تخلو، أعترف لكم، من طعم اللذة المحرّمة.. كنت بعلاقة خيانة، عشيقة تنتشلني من أحضان زوجتي، كل لحظة. ولما وقعت سيجارة يوماً من جيبي في غرفة النوم أمام زوجتي، تطلعتُ بيأسٍ إلى سقف الغرفة لعل السقفَ ينفتح لأتهم جاري الذي يسكن فوق داري. ولن أصف لكم ما ألقاه من زوجتي ومن عشيقتي السادية السيجارة، أخاف أن يكون أحدكم من ذوي ضغط الدم المرتفع، أو من أصحاب الحساسية العاطفية. لا تلوموني.. جربتُ كل شيء، اللصقاتُ المانعة.. وأدمنتُ السيجارة و.. اللصقات! وجربت من يأسي التنويمَ المغناطيسي، ولم أعد أرى بنوم اليقظة إلا السيجارة. وجربت حبة صيدلانية اسمها ""زايبان Zyban"".. وكادت بعد مدة أن تفقدني رشدي وتضيع عقلي مع أنها نجحت في تخليصي من السيجارة.. فكان أرحم أن أعود لمن لا ترحم، وكأنها تعاقبني أشد وأنا أحاول هجرانها. ولآتي إلى النهاية، ففي محاولة بإرادة فولاذية ومستعصماً بكل خليةٍ تريد الحياة بكياني.. رميتُ آخر سيجارة.. وأنا، الآن، أسعدُ كائن برئتين يمشي على كوكب الأرض"".