دخلت مستشفى الملك خالد الجامعي متجهاً إلى المبنى الشرقي، الدور الرابع، جناح 41، غرفة 10 لزيارتي المسائية لأخي عبدالرحمن الساعة 7.45 تقريباً، وفي الممر قابلت ابنته أمل وزوجته أم بدر متجهتين سوياً إلى الغرفة. الصمت كان سائداً، والدعوات منا متواصلة بأن يشفي الأخ عبدالرحمن ويعافيه، مع حمد لله وشكره على كل أمر وتدبير. وكانت أمل الوفية الملازمة لوالدها صباحاً ومساء مع بقية إخوتها وأخواتها تدرك أن حالة والدها صعبة، فكانت تحاول أن تطلب مني عدم زيارته الليلة. «كأنك يا عمي ما تستحمل يا ليت ما تزوره». أربكني الموقف، وأم بدر تواصل دعواتها حتى اقتربنا من الغرفة، وفجأة خرج بدر - وكنت قد سبقتهم للغرفة - وقال بلهجة الأطباء المتماسكين: لقد توفي والدي يا عمي قبل قليل. دخلت الغرفة، دخلت أم بدر الغرفة، دخلت أمل، كان هناك الابن الوفي البار نواف، رأينا عبدالرحمن صاحب الوجه الطيب الحنون المسالم النبيل المبادر لخدمة الناس وقضاء حوائجهم ميتاً مبتسماً. كان الموقف مهيباً، بكت أم بدر، بكت أمل، بكينا جميعاً، بينما بدر في حالة ذهول؛ حاول تهدئة والدته وأخته وهن يودعان الأب الحنون والزوج الحنون في لحظات مؤثرة ودموع وعدم قبول للخبر. انتظروا لم يمت، تأكدوا ربما يعود القلب للنبض. حدثت حالات كثيرة، قالت ذلك أم بدر وهي تبكي بمرارة الفقد لعل رفيق دربها وحببب عمرها يعود إلى الحياة غير مصدقة أن الزوج الحببب الغالي مات. كان الموقف حزيناً جداً، وكان وداعاً مؤثراً، وكان هناك ثامر البلاع صديق بدر يحاول تهدئتنا ومواساتنا في غرفة الانتظار. ظل بدر بجانب والده لا يريد أن يغادر، وبدر هذا رجل عظيم قالت لي أمل في أحد أيام الزيارة قبل وفاة والدها: إن بدر ظل في السنتين الأخيرتين هو المعني بمواعيد والدي في المستشفى، وكان والدي يشعر بالأمان مع بدر؛ كونه يجيد اللغة الإنجليزية، ويتحدث مع الأطباء، ويعرف تفاصيل مواعيده. وكان بدر هو من يعتني به ويهتم به ويقلم أظافره ويرتب شعره ويحممه، وكان موزعاً وقته مع والدته وإخوانه وأخواته بين والدهم وبين الابن مشعل الذي أصيب بحادث سيارة أمضى فيه خمسة أشهر في مستشفى الحرس الوطني وشهرين في مدينة سلطان، وخرج وهو فاقد الذاكرة لا يعرف من حوله، وإصابته في قدميه أقعدته من المشي. ومن صدمه زميله طليقاً خرج بكفالة وهذه قصة أخرى. لكن جزء من ألم أخي عبدالرحمن هو مرض مشعل الذي كان محبوباً من الجميع، وكان موهوباً مميزاً شفاه الله. هذا قضاء الله وقدره مات الأخ عبدالرحمن وجاءت جموع كثيرة لوداعه في جامع الملك خالد ثم دفن في مقبرة عرقة حيث دفنت والدته رحمهما الله. مات الأخ عبدالرحمن صاحب القلب الأبيض وترك لنا منهج حياة وأسلوباً أخلاقياً مميزاً يتمثل في العطاء من دون مقابل، وفِي كف الأذى والإحسان إلى الناس ومساعدتهم والوقوف معهم وحسن التعامل والابتعاد عن المشاحنات والمنافسات والحرص والمواظبة على صلاة الجماعة وقراءة القرآن الكريم، والإخلاص في العمل والحرص على إتقانه وتعدد الأعمال، والانشغال طول الْيَوْم بما يفيد، وصلة الرحم وحسن الخلق والحرص على العلاقات مع الجميع، وظهر كل ذلك في الآلاف الذين توافدوا للعزاء حضورياً أو هاتفياً أو كتابياً، وكذلك من خلال المقالات الصادقة الوفية التي روت قصصاً عن سجايا وأخلاق ومواقف الأخ عبدالرحمن - رحمه الله - ومن خلال تعازي المجتمع السعودي بداية بخادم الحرمين الشريفين وولي العهد - حفظهما الله - والأمراء والوزراء والعلماء ومختلف فئات المجتمع. أنا لا أتذكر أن هذه الهالة حدثت لأي شخصية عادية عند وفاتها طبعاً «غير الملوك والأمراء» أنا أقصد مواطناً عادياً ليس ذا سلطة أو منصب وليس ذا مال. لأول مرة أرى شخصاً عادياً متواضعاً يهز المجتمع بوفاته بكثرة حضور المشيعين والمعزين ومن كتب عنه ومن رثاه ومن غرد عنه رغم أنه موسم إجازات. قال أحدهم مغرداً طلبت منه مساعدة لوظيفة لزوجتي ولَم يقصر، وحتى القطط في المواقف ستفتقده؛ لأنه كان يهتم بالصدقة للإنسان، وكان يحضر علب التونة ويضعها للقطط. تقول ابنته أمل: أبي رجل بسيط قلبه أبيض، رحل وترك ماضياً أبيض مشعاً. رحمك الله يا أبا بدر، وأسكنك فسيح جناته، فقد جئت إلى هذه الحياة مشرقاً حبيباً طيباً نبيلاً، ذكرت مواقفك معي ومع غيري في مقال كتبته قبل سنوات، وغادرت الحياة بهذا الذكر الطيب والحب والدعاء والنَّاس شهود الله في أرضه. إنا لله وإنا إليه راجعون. د. سعود صالح المصيبيح Your browser does not support the video tag.