لعلَّ بعض من ينقل الأخبار ويردد المسموع، يتورع عن الزيادة والنقصان فيما يردد، لكنه يشكل خلية من نسيج متكاثر في المجتمع، جل مشكلاتنا الإعلامية من هذا الصنف الذي لا يميز بين «الليل والنهار» ولا يفرق بين «الحق والباطل».. أتساءل أحياناً كيف أبدأ الكلام؟ ليس عجزًا عن براعة استهلال، ولكن توخيًا لإساءة فهم كثير من الناس، وهو ما لا يستطاع أصلًا، فلكل كلامٍ ناقلوه، ولكل نقلٍ محرّفوه، ومن بين إساءة النقل وإساءة الفهم تتولد مقالةٌ بينها وبين من نُسبت إليه بعد المشرقين! ومفاوز لا تقطعها (فَتَبَيَّنُوا) أو (فَتَثَبَّتُوا) فقد حال دون التبين والتثبت أسوار شائكة من «الوتسسة والفسبكة والتوترة والتلفزة» حتى تنزّل تلك الأخبار منزلة المنقول القطعي اليقيني فلا يقوى على نفيها تصريح ولا مقال ولا تغريدة ولا خطبة، وحيث كان التدقيق في نسبة القول إلى قائليه صفة توثيق، وشهادة عملية على البحث والتحقيق، فقد أصبح من يبحث ويتحقق مما يسمع موضع ريبة عند كثير من منتسبي الطلب والتعلّم فضلًا عن الببغاوات الآدمية التي لا تحسن التفكر ولا التعقل فيما تسمع، وليس بمقدورها غير ترديد ما تسمع وإلقائه!وتنال بذلك إعجاب الحاضرين، وتصفيق الزائرين، وتسبيح العابدين! لكن الشأن هنا ليس كشأن ذلك الطير الذي هو من مخلوقات الله في الكون، لم يكلف كتكليفنا، ولم يحث على التدقيق والتثبت في المسموع وليس له ذلك، فإنه لم يوهب أدوات التعقل، غير أن ذلك «الإنسان» المنسوب إلى (آدم) الذي علمه الله الأسماء كلها، والذي عُلِّم بالقلم، وأعطي من العقل ما أهله لاستقبال رسائل الله السماوية، وكُرّم في البر والبحر، وأظهر دينه، وحّرم دمُه وماله وعرضه، فإذا به هو من يهدم أسوار ذلك التكريم بمعاول الجهل وإلغاء العقل، فكم هي الأخبار التي تتداول في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، وفي وسائل التواصل يلوكها الناس، وتتلقاها الألسن، وهي لا تتعدى أن تكون «كذبة» أنشئت لا يلقي لها صاحبها بالًا، فإذا بها تطير في الآفاق، أو تكلم بها عالم عند جاهل لا يحسن التحمل والأداء كما هو حاصل عند كثيرٍ ممن تلهّوا بنقل الأخبار، وأصبحت نفوسهم تجد متعة في ليّ الكلام وتحويره، والأطم من هذا من اتخذها عبادة يتقرب بها إلى الله، فيكبر الصغير، ويعظم الحقير من الكلام، ويهول السهل، بل ويلفق الأقوال والمذاهب وينسبها إلى مخالفيه وخصومه، فهو وإن كان من الببغاوات المرددة، إلا أنه أكثرها خطرًا وتأثيرًا، إذ إنه يبتغي الأجر بسوئه: سكرانُ يعثُرُ في ذيولِ لِسانهِ كُفراً ويحسِبُ أنَّه قد سبَّحا ولعل بعض من ينقل الأخبار ويردد المسموع، يتورع عن الزيادة والنقصان فيما يردد، لكنه يشكل خلية من نسيج متكاثر في المجتمع، جل مشكلاتنا الإعلامية من هذا الصنف الذي لا يميز بين «الليل والنهار» ولا يفرق بين «الحق والباطل». وهذا الداء العضال يحتاج إلى تكثيف جهود المصلحين والمربين للتخفيف منه ومنعه، والأشد حاجة من التربية والإصلاح هو محاولة الفرد لمعاتبة وإصلاح نفسه فلعل ما فيها من خير يستيقظ ويتفكر ويتدبر فيما يأتي ويذر، ويترك ترديد القول إذ إن من علامات الكذب وصفات الكذابين التي تجر إلى الإثم، وقبل الإثم وبعده إلى خلخلة المجتمع، ونزع الثقة من حديث الناس بعضهم لبعض، هو ترديد القول والحديث به دون التفكر فيما يحمل من قضية أو تهمة أو فرية وفي الحديث «كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع» وفي رواية (إثما)!. وفي التنزيل {إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم وتحسبونه هينًا وهو عند الله عظيم}، فالخبر لم يمر على آذانهم، ولم يفلتر في أذهانهم، بل تلقته الألسن، وسارعت ببثه، تحصيلاً للسبق الإعلامي، أو لتشيع الفاحشة في الذين آمنوا، أو لغير ذلك مما قد يتوهمه المسارعون للنشر، الحاثون عليه بعبارتهم الشهيرة (انشر تؤجر)!. وقد كانت هذه الآية تبرئة لأم المؤمنين من فرية عظيمة، وما ساعد على انتشارها وفشوها إلا عدم التفكر فيما يقال والتعامل معه وفق ما أصله سيد المتثبتين والمتبينين «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت»، هذا، والله من وراء القصد. Your browser does not support the video tag.