أينما حلّت حلّ الخراب، فالأيديولوجيا التي تقوم عليها سيّرت مفاهيم الطائفية لخدمة الأهداف السياسية التي رسمتها في مواقع كثيرة على خريطتها العدوانية بالشرق الأوسط والقارة الأفريقية، فما تعيشه إيران الآن لا يعدو عن كونه ارتداداً للأقاليم التي استعصت عليها وانزوت تحت ظل التجمّع العربي بجانب الدول العربية الأخرى بحسب ما أوضحه تقرير مختصّ في هذا الشأن. وبيّن التقرير الصادر عن المعهد الدولي للدراسات الإيرانية أن إيران تمرّ بمرحلة ارتباك سياسيّ بإعلان الولاياتالمتحدة الأميركية الانسحاب من الاتفاق النووي، مع عودة العمل بالعقوبات الاقتصادية على إيران في مايو 2018، فإنها أيضًا تتعرض لارتدادات تأتي من إقليم المغرب العربي بانضمام اثنتين من دوله وهما المغرب وموريتانيا، إلى الحكومات العربية التي تأزّمت عَلاقاتها السياسية والدبلوماسية مع إيران، فضلاً عن تراجع شعبية إيران على مستوى شعوب الدول المغاربية، وذلك في ضوء ما تمرّ به سورية والعراق واليمن من تمزُّق وتفتُّت جرّاء التوغل الإيراني فيها، كذلك تنامي الإدراك الشعبي الجزائري بخطورة المساعي الإيرانية لنشر الفكر الطائفي داخل أراضيها، حيث يأتي أول ارتداد من المغرب في 1مايو 2018، عبر إعلانه قطع العَلاقات الدبلوماسية مع إيران، بعد حصول المغرب على معلومات مفادها ممارسة إيران دورًا سياسيًّا سلبيًّا تجاه الوحدة الترابية المغربية جرّاء ما يقوم به ملحقها الثقافي بالجزائر أمير موسوي من تنسيق لكل اللقاءات التي جمعت بين «حزب الله» اللبناني وجبهة البوليساريو المناوئة للحكومة المغربية، للتباحث حول كيفية وسبل ممارسة الضغوط على الحكومة المغربية للسماح للجبهة للانفصال بالصحراء الغربية كورقة ضغط قوية في يد إيران تجاه موقف الحكومة المغربية من نشر الفكر المذهبي، وجاءت الثانية من موريتانيا بعد أقل من شهر تحديدًا في 30 مايو 2018 باتخاذ السلطات الموريتانية حزمة من التدابير للحدّ من الأنشطة الإيرانية فيها، من بينها استدعاء السفير الإيراني بنواكشوط محمد عمراني بشكل مفاجئ وتسليمه رسالة احتجاج شديدة اللهجة اعتراضًا على السياسة الإيرانية تجاه موريتانيا، محذرةً إياه من ممارسة السفارة الإيرانية أي أنشطة لنشر المذهبية بالمجتمع الموريتاني أو تغيير مذهبه أو عقيدته، معتبرة أن أي ظهور للطائفية في موريتانيا سيؤدي إلى إنهاء عمل السفير وإعادة النظر في العَلاقات الموريتانية - الإيرانية بشكل كامل، وهو ما نفته إيران، مشددة أن عمراني كان يسلّم رسالة إيرانية للخارجية الموريتانية حول ما وصفه بنكث العهد الأميركي للاتفاق النووي. وعن الإجراءات التي تمت في موريتانيا بهذا الشأن ذكر التقرير أن تقليم أظفار إيران وتحجيم دورها هناك كان مبرراً لما قامت به السلطات الموريتانية من حيث إغلاق «مجمع الإمام علي» وعزلت إمامه، كما عيّنت مكانه إمامًا آخر بعد ضمّه إلى وزارة الشؤون الإسلامية والتعليم الأصلي الموريتانية، وذلك بعد أن علمت عن طريق شكاوى لمواطنين موريتانيين من سلوك القائمين على المجمع بمجاهرتهم بمخالفة المذهب المالكي المعمول به في موريتانيا، وبعد ملاحظتها أيضًا تكثيف المجمع تنظيم الاجتماعات واللقاءات المذهبية وإيفاده مبتعثين إلى إيرانولبنان وتوزيعه منحًا دراسية خاصّة بالمذهبية في المجتمع الموريتاني، أما الارتداد الثالث فكان مختلفاً عن ما سبق، كونه شعبياً وليس رسمياً نبع من تنامي يقظة الشعب الجزائري تجاه نشر الطائفية وخطورتها، إذ نجح الجزائريون من المدونين والنشطاء في تحويل مطالب الرأي العام الجزائري بطرد المستشار الثقافي الإيرانيبالجزائر أمير موسوي لنشره الفكر المذهبي بالجزائر إلى قضية رأي عام جزائري عبر تصميمهم «هاشتاغ» على مواقع التواصل الاجتماعي #الجزائرتطردأمير_موسوي، وهو ما أجبر الجزائريين الموالين لإيران على تغيير خطابهم والتنصل من عَلاقتهم العميقة بموسوي. وتولي إيران أهمية جيو-استراتيجية للدول المغاربية بالنظر إلى موقعها الاستراتيجي (خصوصًا المغرب وموريتانيا شمال القارة الأفريقية التي توليها إيران أهمية كبيرة) الممتد من ساحل البحر المتوسط شمالًا حتى المحيط الأطلسي غربًا، وإشرافها على الممر البحري الدولي مضيق جبل طارق الذي يربط البحر المتوسط بالمحيط الأطلسي، ثم إلى الأميركيتين، ويعبر من خلاله النفط والغاز ويشكل إحدى القنوات البالغة الحيوية في تأمين مسالك التجارة العالمية. وثانيها، الإدراك الإيراني للمغرب كفاعل إقليمي مؤثر في مناطق استراتيجية كمنطقة الساحل والصحراء والمغرب العربي وأفريقيا، وهي نفس المناطق التي تدخل في دائرة الاهتمام الإيراني، فضلًا عن أهمية موريتانيا بالنسبة إلى إيران لمشروعاتها المستقبلية في غرب أفريقيا، فالوجود الإيراني في الدول المغاربية يتيح لها وجودًا في القارة السمراء الواعدة، ويشكل بوابة للدخول إلى الدول الإفريقية خصوصًا الإسلامية منها، فبالعودة إلى الانتكاسات الإيرانية في الدول المغاربية، نجد أنها توفر أدلة جديدة أمام الجماعة الدولية على ضرب إيران عرض الحائط بالقوانين والمواثيق الدولية التي تفرض على الدول فرادى وجماعات الالتزام بمبادئها، خصوصًا مبدأ عدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول واحترام سيادة الدول ووحدة وسلامة أراضيها، كما أنها تبين ارتفاع عدد الدول العربية التي تقطع عَلاقاتها الدبلوماسية مع إيران نتيجة سلوكها التوسعي وسياستها الطائفية، إذ بلغ عدد الدول العربية التي قطعت أو خفضت بالتتالي عَلاقاتها الدبلوماسية مع إيران 12 دولة عربية (9 دول قطعت: السعودية، البحرين، المغرب، مصر، اليمن، السودان، الصومال، جيبوتي، جزر القمر. و3 دول خفضت: الكويت، الإمارات، الأردن)، ما نسبته 60 % من الدول العربية، مقابل دول عربية أبقت على عَلاقاتها الدبلوماسية مع إيران: سورية، العراق، لبنان، قطر، سلطنة عمان، الجزائر، ليبيا، تونس، موريتانيا (استدعت السفير)، ومن المرجح أن تظل العَلاقات الإيرانية - المغاربية، خصوصًا المغرب وموريتانيا، عرضة باستمرار للتقلب والاضطراب كسابق عهدها دون الحفاظ على نمط خط ثابت للعَلاقات، وذلك لغياب ركائز قوية تضمن استمرارية ثبات العَلاقات، بالنظر إلى طبيعة التركيبة السكانية المغاربية ذات الغالبية السنية (نسبة 98 %)، وحساسية صناع القرار في المغرب وموريتانيا تجاه البعد الديني في الدولتين، وعَلاقة ذلك بطبيعة السياستين المغربية والموريتانية التي تعارض أي خلخلة في منظومتيهما المذهبيتين، فضلًا عن غياب لغة المصالح المشتركة بين الدولتين وإيران نتيجة تردي العَلاقات الاقتصادية والتجارية البينية، بالإضافة إلى استمرارية الموقف الإيراني الداعم لجبهة البوليساريو في ما يخص طموحاتها الانفصالية، وأخيرًا يظل المحدّد الأبرز في رسم مستقبل العَلاقات الإيرانية مع الدولتين المغاربيتين وتحديدًا مع المغرب مرهونًا بمدى جدية إيران في التراجع عن نشر المذهبية والفكر الطائفي في الدولتين، وأيضًا بمدى احترام صناع القرار في إيران لثوابت السيادتين المغربية والموريتانية، وبمدى الوعي الإيراني بأهمية عدم التدخّل في الشؤون الداخلية لتلك الدول، غير أن الشكوك في إمكانية التزام إيران بتلك المتطلبات لضمان استمرارية عَلاقتها مع الدول المغاربية، إذا ما تم الوقوف على أهمية الدول المغاربية في الاستراتيجية الإيرانية، وما تديره المنظمات الطائفية لنشر فكرها في أوساط المغرب وجاليته بالدول الأوروبية، فضلًا عما يحضر في أذهان المغاربة بما تقوم به إيران من أنشطة توسعية في سورية واليمن والعراق أدت إلى تفتيت تلك الدول وتمزيقها، وهو ما يجعل العَلاقات الإيرانية مع الدولتين في مواجهة مستقبل متعرج ومتقلب. Your browser does not support the video tag.