أسهمت هذه المنطقة، بشعوبها من الهلال الخصيب وشبه الجزيرة العربية حتى أرض وادي النيل وشمال أفريقيا، في خلق ثقافات وارتحالها وانتشارها ووراثتها، سواء في حواضرها الكبرى، أو مدنها على طرق التجارة البرية وموانئها على السواحل، وكما عرفت حواضرها بوصفها مراكز المعرفة، فإن حدودها الساحلية مزجت ثقافات شعوبية، سواء في الخليج العربي أو بحر العرب أو البحر الأحمر أو البحر المتوسط. ومن أبرز مزاياها الخزان البشري لأرومة واحدة من السلالات شمالية وجنوبية، تعاقبت بأجيالها ومراحلها الحضارية، سواء توارثت المنجز الحضاري أو قطعت معه، وشكلت ما أطلق عليه "المسألة الآرامية – العبرية" ما قبل الميلاد أو "المسألة القيسية – اليمنية" ما بعد الميلاد حتى الآن. فقد زخرت هذه المنطقة بوصفها أرض "استقطاب حضاري"، أولى مزاياه "الإدماج الاجتماعي"، وأسوؤها "الاضطراب السياسي"، ولكل أمر نقيض. كما أنها بسبب عاملي الجغرافيا ومعطياتها والتاريخ ومجرياته، نقشت عليها مراحل من النشوء والهجرات، كذلك الفناء والولادة الجديدة. وقد أنتج الوعي بالجغرافيا والتاريخ، من سيرة الشفاه والنقوش والورق والشاشات الرقمية، إلى تدوين المعقول منها واكتشاف المجهول، واستذكار المنسي، وتصحيح المعروف في مؤلفات بعضها مصدري، على سبيل المثال: "مقدمة في تاريخ الحضارات القديمة" 1951 لطه باقر، و"موسوعة تاريخ العرب قبل الإسلام" 1956-1960 لجواد علي "المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام" 1968-1974 لجواد علي 1907-1987م، و"ملاحم وأساطير من أوغاريت" 1966 لأنيس فريحة 1903-1993، و"شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان" 1967 لجمال حمدان 1928م -1993م، و"ثلاثة وثلاثون قرنا من تاريخ الأمازيغيين" 1989 لمحمد شفيق. هذه الحضارات لم تنقطع بعضها عن بعض، فقد تجاورت الحضارة السومرية في العراق والدلمونية في الخليج العربي وشرق الجزيرة العربية، وامتدت العلاقات بين الحضارة الأكادية في العراق والحضارة الأمورية في الشام، وتقاطعت الحضارة الآشورية في شمال العراق والحضارة الثمودية في غرب الجزيرة العربية، وتجاورت الحضارة البابلية والحضارة الأوغاريتية في الشام، وتقاطعت الحضارة العمورية في الشام والحضارة الفرعونية في مصر، وتجاورت الحضارة الفرعونية والحضارة الليبيية "شمال المغرب". وهذا ما دعا إلى استمرار المشترك في التراث الثقافي المادي والمعنوي، فلم تنعزل تلك المناطق بعضها عن بعض، وتوافقت الأسباب الاجتماعية والدينية والاقتصادية قبل السياسية لهذا "المشترك الثقافي" فيما بينها، فنجد من آثارها المادية والمعنوية انتشار مظاهر الحضارة المختلفة، ومنها الأكلات والملابس والأواني والآلات، وارتحال الآلات الموسيقية والمجاميع الأدائية والراقصة ونصوص الصلوات والمراثي والتمجيد وما سواها. Your browser does not support the video tag.