في ليلة عيد، لا تخف ذكرى الراحلين ولا تترك للأسى ممراً إلى صدرك.. ابتسم لهم وسترى كم يبدو هذا الحزن نبيلاً وجميلاً ومصعداً لأفراح الروح في حضرة الراحلين.. ما إن تأتي ليلة العيد، حتى تستغرق البعض تداعيات تجر أخرى.. ولست إلا أحدهم، وما إن تنصرف أيام العيد حتى تعود يوميات الحياة التي لا تعرف التوقف.. ننهمك في شؤونها وننشغل بقضاياها، ونكابد تحولاتها... للعيد أفراح وأحزان؛ فرح بأداء فريضة الصيام وما يصاحب شهرها الكريم من أعمال خير وقيام، إلا أن ليلته تستدعي عند كثيرين غمامة من الحزن لفقد أحبة من قرابة أو أصدقاء.. فلا تفتر المناسبة الحاضرة والذاكرة المتوقدة إلا استدعاءهم، وكأنها ترصد فقدهم عبر شريط تمرره تلك الساعة، رغم أن بعضهم قد غادر حياتنا منذ سنين أو عقود. ومن يتأمل تلك المراوحة بين الفرح والحزن، سيجد أن الربط بين العيد وصروف الحياة مؤثر في انصراف البعض لدائرة الأحزان. شرع الإسلام عيدين.. كلاهما ارتبطا بإتمام فريضة؛ فليس هناك عيد للمسلمين ارتبط بميلاد نبي أو قديس، وليس هناك عيد ارتبط بحادثة من حوادث الدنيا مجداً أو صعوداً، ولم يكن ثمة عيد للمسلمين بأي شكل من الأشكال جُعل مصدره أو مناسبته تتعلق بشخصيات أو حركة أو دولة أو ثورة.. لم ترتبط أعياد المسلمين بمتغيرات الحياة الدنيا.. بل ارتبطت بثابت الحياة الآخرة.. وتقدم العيد باعتباره ثمرة إيمان وبشرى للإنسان في الدارين. إن أعياد الإسلام متجاوزة لوقائع الحياة.. إنها ترتحل إلى معنى آخر، استلهامه سيكون أعظم مصل ضد الأحزان، إنه الانفصال عن دائرة الدنيا إلى رحاب اليوم الموعود. وهو الذي يجعل للعيد طعماً آخر وروحاً أخرى مهما كانت ظروف الحياة.. بل إنه بهذا المعنى ثورة على كل أحزان الحياة وصروفها. أليس بإمكان هذا المعنى أن يمنحنا مناعة ضد الأسى.. ألا يتحول العيد هنا من مناسبة معتادة كل عام إلى موعد للاستبشار بوعد الله الجميل، أليس بإمكان هذا المعنى أن يخرجنا من ضيق الدنيا ومآسيها ووجوه فقدها ومفقوديها إلى رحاب عالم تغشاه السكينة، وتنتشر فيه أفراح الروح وهي تنفض عنها وعنا غبار الدنيا.. ومن كان هذه حاله، فمن المؤكد أن أحزانه ستتوارى خجلاً ولن تطول أتراحه، ستؤلمه لكنها ترحل سريعاً ببشارة خير له ولهم، تدمع عينه ولكنها لن تنزع الأمل الجميل من صدره وهو يناجي رباً رحيماً كريماً وسعت رحمته كل شيء. في ليلة العيد إذا مر بك طائف من الراحلين عن عالمك فلا تترك فرصة للحسرة أو الأسى أو لواعج الفقد.. بل استعد لحفلة استقبال روحية، لا تحاول أن تطرد وجوههم من خيالك.. ادنهم منك وابتسم في وجوههم.. أخبرهم أنك تحبهم وستظل، وأنك تستحضر لحظاتهم، واستعد بروح الاستقبال الجميل ذكريات عزيزة جمعتك بهم.. اجعل ليلتك صافية بصفاء عشق أرواح مؤتلفة محبة تراودك تلك الساعة.. اضحك معهم على لحظات مرت يوماً ما وأشرقت لها الوجوه ودمعت العينان فرحاً وجذلاً.. أخبرهم أنك على العهد والوعد.. وأن روحك ستظل تعانق أرواحهم، وأن ذكراهم عطر يمتع أيامك الباقية.. لا تأسَ على الفقد.. ليكن حفلاً للفرح بتلك الوجوه الزائرة.. وهل أعظم وأجمل من أفراح الروح في ليلة عيد نستقبل فيها أحبة سبقونا إلى العالم الآخر. إن إطلاق روحك مع أرواح الراحلين ستعود لك بطمأنينة نفس وانشراح صدر واستبشار جميل.. لا تجعل الخوف من صروف الدنيا أو الرحيل عنها يسيطر عليك.. تصورها رحلة ممتعة في سفر الكون الكبير.. وأن روحك لا تضمحل ولا تفنى.. إنها تصعد لخالق كريم رحيم تسعها رحمته إلى يوم يبعثون. في ليلة عيد، لا تخف ذكرى الراحلين ولا تترك للأسى ممراً إلى صدرك.. ابتسم لهم وسترى كم يبدو هذا الحزن نبيلاً وجميلاً ومصعداً لأفراح الروح في حضرة الراحلين. إن من أعظم نعم الله أن جعل لهذه الحياة معنى وغاية ونهاية، ولولا تلك المعاني لربما عشنا في كبد موصول، وأسى لا يعرف الركون، وقلق يستبد بنا كل حين، ومظالم لا حصر لها ولا عد، وظلم لا حدود له وجنايات تأكل الأخضر واليابس.. إن ثمة خريطة طريق سنها الخالق، علينا تأملها وفهمها، وعوائد الفهم ستكون خيراً لنا.. والانصراف عنها سيكون بؤساً وشقاء. والعيد مناسبة للاجتماع والأنس بالأحياء. اجعل منه أيضاً لحظات صفاء في خلوتك. نعاود كل عيد جملاً لا نبرحها، وقلما توقفنا عند المعنى العميق لنكتشف أن تلك اللحظات النادرة التي نستعيد فيها صور الراحلين.. إنما هي أيضاً رحمة من الله لندرك المعنى الكبير بين حياتين لا تنفصلان، ولولا الأولى لما وجدت الأخرى، ولولا الوعد الجميل في الأخرى لما أشرقت سعادة في وجه عابر في الأولى. في صباح العيد استقبل من تراه باستبشار وثمة نور في عينيك، وإيمان بأن الحياة رحلة الأحرار من قيود الخوف والترقب القلق لصروف الحياة إلى رحاب رب العباد.. وأكرم به من رحاب. Your browser does not support the video tag.