مهما هيأنا أنفسنا لفقدان حبيب، ومهما كانت الأشهر والأسابيع التي تسبق خسارتنا له طويلة ومليئة بالمؤشرات على أن الفقدان أمسى قريباً والفاجعة أضحت حتمية فمازالت الصدمة التي تخبرك أن من تحب كثيراً لم يعد هنا قوية، والمفاجأة بالموت قائمة، والضربة موجعة وعنيفة.. لتجد نفسك تكرر كثيراً في داخلك (لقد رحلت إلى الأبد.. لقد ماتت)، ماتت ورحل معها ألف شيء ثمين كان يجعل حياتك مبهجة وجميلة. ماتت وعاش الواقع المؤلم بأن تعود للمنزل في نهاية كل يوم ولا يستقبلك حبها، أن تمسك هاتفك لترى رقم من تحب، وتعرف حق المعرفة أنك لو طلبت الرقم ألف مرة فإن صوت حبيبتك لن يجيبك بعد اليوم.. لن تستطيع بعد اليوم أن تمسك بيدها لتقبلها، ولا أن تحتضنها وتنعم بهواها الذي لا ينافسه هوى، فقد ذهب دفء ابتسامتها، واختفى صوتها الذي يحيي المكان، وما عادت رائحة قهوتها تؤنس الوجود، حُرِمْت إلى الأبد من حبها. مؤلم هو الموت، شاق على قلوب الأحبة، ألم يجبره الصبر، وإن كان لا ينهيه، مجبر أن تتحمله وإن كنت لا تبغيه.. لا يشبه الموت شيئاً إلا الموت، فلا تصفه كلمات ولا تبلغه الأحاسيس، بارد لدرجة أنه يتجاوز الأموات إلى الأحياء، كئيب لدرجة أنه ينسيك أن هناك حياة، ضيّق لدرجة أنك لا تتجاوز ملامح حبيبك الميت ولا تتعدى بعينيك حدود نعشه. أي دفء يطلبه من فقد حبيبته، معشوقته، والمثل الأعلى الذي لا يُهز، والكبرياء التي لا تكسر.. أي دفء يطلبه من فقد أمه، تشرق الشمس فلا نور لها وقد اختفى ضوء أمي.. يشبه النهار الليل، تصبح الضحكات أصعب، والدموع أغزر، ويصول البرد بجنباتي، وترعد الذكريات منادية إياها فلا تجيبني من كانت لا ترد ندائي أبداً، وكل طفل بداخلي كان مدللاً يلعب بين يديها الحنونتين، يكبر ويشيخ في لحظات، وتضيق كل الأماكن التي كانت تتسع بترحيباتها حين ألقاها. سكن الجوفَ خوفٌ من نوع غريب، وغربة من نوع مخيف، لأكفانك يا أمي رائحة تعمدت شمّها بكل حواسي حين ودّعتك، رائحة الحب الذي كنت أتصيد كل فرصة في حياتك لأعيشه بأحضانك يسوقني مرغمةً حبُ الطفل الصغير لأمه، ويمنعني مرات خجلُ الكبار الذي حرمهم كثيراً من ملذات الحياة، ومازالت تلك الرائحة الممزوجة بالمسك والريحان والكافور تعج بداخلي فتطغى على كل عطر. ياعطراً ملأ دنياي بشذاه وعبيره، ياحباً لم يخالطه شك ولا مصلحة ولا ريبة، يا عاطفة لم يوقفها غضب ولم يوهنها تعب.. أحبك وسأظل أحبك، فجزاك الله عنا كل خير، وعوّضك خيراً منا ومن الدنيا، وأسكنك الفردوس الأعلى.. ولا أملك إلا أن أقول: "إنا لله وإنا إليه راجعون"، ولا حول ولا قوة إلا بالله، والحمد لله دائماً وأبداً.