يأتي قرار السماح بإصدار تراخيص صالات السينما الذي أعلنته وزارة الثقافة والإعلام يوم أمس، استجابة للمتغيرات الحضارية التي تعيشها المملكة في الفترة الأخيرة والتي أُغلق بفضلها الكثير من الملفات الجدلية مثل قيادة المرأة للسيارة وقانون التحرش وغيرها من القضايا التي استنزفت جهد ووقت السعوديين لسنوات طويلة. الآن بإمكان المجتمع أن ينطلق في رحلة جديدة ملؤها الإنجاز والإبداع والتفكير بصفاء في القضايا التنموية الحقيقية بعد أن تخلص من المعوّقات الذهنية التي كانت تعيق حركته وتبطئها. وهنا يأتي وقت السؤال: ماذا بعد صالات السينما؟ بعد الاتفاق على أهمية صناعة السينما في اقتصاديات القرن الحادي والعشرين والتي جاء القرار الجديد مؤكداً لها تحت مظلة رؤية 2030، لابد من الإشارة إلى أن المجتمع السعودي لم تنقطع علاقته بالسينما في يوم من الأيام، وذلك لأنه عقب توقف صالات العروض السينمائية التي كانت موجودة في الأندية الرياضية حتى عام 1979م، ظل السعوديون على علاقة مميزة بالسينما من خلال شريط الفيديو الذي كان الوسيط الوحيد المتاح حينها عبر المحلات المنتشرة في كل الأحياء السعودية، وقد أثمر هذا الاهتمام عن ظهور جيل سينمائي سعودي شاب أثبت وجوده منذ انتشار الإنترنت مطلع الألفية الجديدة وحتى اليوم. هذه العلاقة المميزة ستأخذ منحى آخر أكثر اتساعاً وعمقاً بعد القرار الجديد، فمن ناحية اجتماعية ستوفر صالات السينما خياراً ترفيهياً راقياً للعائلة السعودية يتميز باستمراريته وسهولته وتجدده على مدار الأسبوع بعكس الحفلات الغنائية والمسرحيات، وهو ما سيمنح بعداً آخر للمولات التجارية التي ستكون الحاضن الوحيد لصالات السينما، الأمر الذي يقود بدوره إلى الفائدة الاقتصادية التي سيثمر عنها القرار وذلك عبر مدخلين؛ الأول المبيعات المباشرة من تذاكر الأفلام والسوق المرتبطة بها "أغذية وألعاب وغيرها"، والمدخل الثاني والمهم بقاء الأموال التي كانت تصرفها العائلة السعودية في الدول المجاورة داخل منظومة الاقتصاد الوطني. في السنوات الماضية كانت العائلة السعودية تدفع أعلى قيمة تذكرة سينمائية في العالم؛ حيث تضطر للسفر من أجل حضور فيلم جديد، وبدل أن تدفع قيمة 35 ريالاً للفرد الواحد مثل أي عائلة في بقية دول العالم، فإنها إضافة إلى ذلك تدفع قيمة السكن وتذاكر الطيران وكل ما يترتب على السفر من مصروفات، لتصل تكلفة حضور الفيلم الواحد للفرد الواحد إلى 400 ريال تقريباً، وهذه قيمة قياسية لا يدفعها غير الفرد السعودي. إلى جانب تقليل الأعباء المالية عن العائلة السعودية، فإن للقرار انعكاسا قويا ومؤثرا على الاقتصاد المحلي وذلك من خلال توليد آلاف الوظائف الجديدة المرتبطة بسوق صالات السينما من موظفي شباك التذاكر إلى الصناعات المتفرعة منها مثل صناعة الأغذية والمطابع والملابس والألعاب إلخ، إضافة إلى شركات توزيع الأفلام وما تحمله من آفاق استثمارية كبيرة. وبوجود الجمهور الغفير والملاءة المالية الممتازة للسعوديين، ستكون المملكة على موعد مع سوق سينمائية ضخمة هي الأكبر في الشرق الأوسط تستوعب أكثر من 4 آلاف صالة سينما في كل مدنها وبإيرادات متوقعة لا تقل عن 15 مليار ريال سنوياً. أرقام كبيرة تؤكد أهمية عودة صناعة صالات السينما للمملكة، وتصب في صميم أهداف رؤية 2030 من حيث خلق مجالات استثمارية ذات عوائد موازية لعوائد النفط، وتحسين جودة حياة السعوديين، إضافة إلى تحفيز المواهب الشابة لخوض غمار أهم الصناعات الثقافية في العالم واحترافها لأنها ستضمن لهم أرباحاً كبيرة تغري بالتفرغ لها. فالفيلم السعودي الواحد قادر على تحقيق ربح كبير يصل لخمسة ملايين ريال لو عرض في 1500 صالة لمدة شهر واحد فقط. وهذا هدف يطمح له آلاف الشباب السعوديين الذين درسوا صناعة الأفلام في عواصم السينما العالمية ومارسوها لسنوات استعداداً لهذه اللحظة. صناعة الفيلم السعودي ستتأثر إيجاباً بهذا القرار، وبحسب المعلومات المتوفرة فإن هناك على الأقل ثلاثة أفلام سعودية طويلة ستكون جاهزة للعرض في عام 2018م، اثنان من إنتاج "إثراء" للمخرجين عبدالعزيز الشلاحي وعبدالمحسن الضبعان، وثالث للمخرج محمود صباغ، إلى جانب عشرات الأفلام التي هي في طور الإعداد حالياً، في حراك إبداعي فعّال سينعكس على جميع المشتغلين بالثقافة والفنون في المملكة وستستفيد منه المواهب السينمائية السعودية، رغم التحدي الكبير الذي ينتظرها والمتمثل في السيطرة المتوقعة للفيلم الأميركي على المساحة الأكبر من صالات العرض السينمائي.