د. الحسيني: ندرة الغذاء الخالي من الجلوتين وثمنه الباهظ أهم معوقات التزام المرضى بالحمية يعاني العديد من الأطفال من مشاكل في النمو مترافقة مع بعض أعراض اضطراب الجهاز الهضمي المزمن غير مبررة بسبب واضح، يتم تشخيصها لاحقاً -قد يكون متأخراً- بتحسس الأمعاء من مادة الجلوتين الموجودة في القمح وهو ما يدعى علمياً ب "السيلياك". مثل تلك الحالات قد تمر دون تشخيص دقيق حتى في أكبر العيادات المتخصصة، يكون منشأ ذلك المرض مناعياً مترافقاً مع الاستعداد الوراثي قابلاً لتفاديه مما يجعل السرعة في تشخيص المرض مهماً لتجنب مضاعفاته، حول هذا الموضوع يسعدنا أن نلتقي بسعادة د. عبدالرحمن بن عبدالله الحسيني، أستاذ مشارك واستشاري أطفال لأمراض الجهاز الهضمي والكبد ورئيس لجنة الأبحاث الطبية في مستشفى الأطفال بمدينة الملك فهد الطبية. د. عبدالرحمن حاصل على الزمالة الكندية في مجال تخصصه، نشرت له عشرات الأبحاث الطبية في مجلات عالمية طبية نال على إثرها العديد من الجوائز كان أبرزها الدراسة التي استهدفت 8 آلاف طالب وطالبة من المدارس الابتدائية والمتوسطة في مدينة الرياض لتحديد مدى انتشار مرض حساسية القمح بين الأطفال السعوديين وللكشف المبكر عن المرض وذلك لتقديم العلاج المناسب في وقت مبكر لمنع مضاعفات المرض. * د. عبدالرحمن هل لنا أن نعرّف القارئ الكريم بشكل أوسع ماذا نقصد بمرض حساسية القمح (السيلياك) وما هي أعراض هذا المرض؟ * مرض التحسس من القمح (السيلياك) هو مرض يصيب الأمعاء الدقيقة ويحدث نتيجة تحسس الجهاز المناعي في الإنسان لمادة الجلوتين في الطعام مما يؤدي إلى تلف أهداب وشعيرات الامتصاص في الأمعاء الدقيقة وعسر الهضم وسوء الامتصاص . أعراض هذا المرض تشمل: ألماً في البطن متكرراً، انتفاخ البطن، وإسهالاً أو إمساكاً، قلة الشهية للأكل، ضعف النمو، قصر القامة، وسوء امتصاص الفيتامينات والكالسيوم والحديد مما يؤدي إلى سوء التغذية، هشاشة العظام، ضعف الأسنان، وفقر الدم. مرض السيلياك هو مرض يصيب الأطفال والكبار، فبالإضافة لما سبق من أعراض يتسبب مرض حساسية القمح في الكبار بالعقم، تأخر البلوغ، تأخر الدورة الشهرية لدى النساء، أمراض الكبد، الجلد، الأعصاب، وتساقط الشعر. الأعراض السابقة الذكر هي أعراض متأخرة لمرض التحسس من القمح ولكن قد يكون مرض حساسية القمح صامتاً وغير مصاحب بأعراض أو علامات سوء امتصاص الطعام وخاصة في بداية المرض، وربما تكون أعراض المرض بسيطة في البداية لأنه ليس من الضروري وجود علامات المرض مجتمعة فقد يعاني الطفل من أحد هذه الأعراض سابقة الذكر، لذلك يشكل التشخيص المبكر لهذا المرض أحد أهم أسباب الوقاية من المشاكل الطبية المترتبة على مرض السيلياك. * ما هي أسباب الإصابة بمرض حساسية القمح (السيلياك)؟ * يصنف مرض حساسية القمح على أنه مرض مناعي، حيث يوجد خلل مناعي يؤدي إلى نشاط الجهاز المناعي في الجسم ضد الأمعاء الدقيقة ناتج عن تحسس الجهاز المناعي ضد مادة الجلوتين الموجودة في الأطعمة المشتقة من القمح. فبالإضافة إلى أكل الأطعمة التي تحتوي القمح يستلزم حدوث مرض السيلياك في أي شخص كذلك ضرورة وجود جينات معينة (تدعى HLA-DQ2 و DQ8) تمنح الشخص القابلية أو الاستعداد للإصابة بالمرض، إذ إن عدم وجود تلك الجينات يجعل الشخص في مأمن من الإصابة بالمرض حتى لو أكل الأطعمة المشتقة من القمح. إذاً هناك عاملان مهمان للإصابة بالمرض: 1- تناول الأطعمة المشتقة من القمح، 2- وجود الجينات التي تمنح الاستعداد للإصابة بالمرض. * كيف يمكن تشخيص مرض حساسية القمح؟ * في الحالات المرضية التي يشتبه فيها وجود مرض حساسية القمح يتم تحليل عينة دم للفحص عن الجسم المضاد المسمى (Anti-TTG). هذا التحليل يتميز بالدقة العالية في تشخيص المرض. عندما يوجد Anti-TTG في الدم بنسبة عالية تكون احتمالية الإصابة بمرض حساسية القمح عالية جداً، ويتم حينها عمل منظار للجهاز الهضمي العلوي لأخذ خزعات من الأمعاء الدقيقة وفحصها تحت المجهر حيث يبدو الضمور أو الاختفاء الكامل لشعيرات الامتصاص وهو ما يؤكد تشخيص الحالة. * ما مدى شيوع مرض حساسية القمح؟ * أفادت التقارير من أوروبا وأميركا وكذلك من بلدان في الشرق الأوسط كإيران وتركيا أن مرض حساسية القمح يوجد بنسبة حالة واحدة في كل 100 شخص (أي بنسبة 1 % في المجتمع). كان من السائد عند العاملين في المجال الصحي في السعودية الاعتقاد بأن مرض حساسية القمح غير شائع، لذلك كان من اللازم عمل دراسة مسحية ضخمة لمعرفة مدى انتشار مرض التحسس من القمح في المجتمع السعودي. * هل هناك دراسات محلية حديثة بهذا الشأن؟ * ما قمنا به في مدينة الملك فهد الطبية دراسة هي الأكبر من نوعها في العالم استغرقت 3 سنوات، نالت الدراسة -بحمد الله- جائزة البحث الأولى في مؤتمر الأبحاث الطبية في مدينة الملك فهد الطبية، تم دعم الدراسة من قبل مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية ونشرت حديثاً في المجلة الرسمية للجمعية الأوروبية والأميركية لأمراض الجهاز الهضمي لدى الأطفال. * ما هي محاور تلك الدراسة وما نتائجها؟ سعينا من خلال الدراسة إلى تحديد مدى انتشار مرض التحسس من القمح بين الأطفال السعوديين في المدارس الابتدائية والمتوسطة بمدينة الرياض ومعرفة أنماط وخصائص حالات السيلياك المكتشفة، كذلك هدفت الدراسة إلى الاكتشاف المبكر لهذا المرض وذلك لتقديم العلاج المناسب في وقت مبكر لمنع مضاعفات المرض، كذلك تم دراسة مدى شيوع الجينات (HLA-DQ2 و HLA-DQ8) التي تمنح الجسم القابلية للإصابة بالمرض في المجتمع السعودي. خلال فترة الدراسة (من عام 2014 م إلى 2016م)، تم فحص عينات الدم من 7930 طالباً وطالبة من عينة عشوائية من مدارس المرحلة الابتدائية والمتوسطة في مدينة الرياض، تم تشخيص مرض السيلياك لدى 120 حالة من مجموع العينة البالغ 7930 (1.5 % من المجموع الكلي لعينة الدراسة) أي بما يعادل حالة واحدة لكل 67 شخصاً في المجتمع السعودي. كذلك تبين من فحص الجينات أن 53 % من الأطفال السعوديين يحملون الجينات (HLA-DQ2 or HLA-DQ8) التي تجعلهم عرضة للإصابة بمرض السيلياك وهذه من أعلى النسب في العالم إذا ما علمنا أن نسبة من يحملون الجينات المسببة لمرض السيلياك في أوروبا وأميركا 30-40 % فقط. حسب إحصائية وزارة التعليم لعام 1434-1435 ه (وقت بداية الدراسة) فإن عدد الطلبة والطالبات السعوديين في مراحل الدراسة الابتدائية والمتوسطة في مدينة الرياض بلغ قرابة 550000 طالب وطالبة، إذاً بلغة الأرقام فإن نسبة 1.5 % تعني أن حوالي 8250 من الأطفال (من عمر 6-15 سنة) يعانون من مرض حساسية القمح غير مكتشف في مدينة الرياض لوحدها. ولو توسعنا قليلاً وافترضنا أن نسبة وجود مرض السيلياك في المملكة 1.5 % (باعتبار أن مدينة الرياض تمثل إلى حد بعيد المجتمع السعودي بما تضمه من جميع شرائح وأطياف المجتمع السعودي)، وحيث إن عدد المواطنين تقريباً هو ثلثا العدد الكلي للسكان بالمملكة (31،000،000)، فإن نسبة 1.5 % تعني أن هناك قرابة 300،000 حالة حساسية قمح غير مكتشفة في السعودية ! هذه الدراسة تقدم دليلاً مهماً على شيوع مرض حساسية القمح في المجتمع السعودي (1.5 %) وهو معدل يشكل ضعف النسبة في دول أوروبا وأميركا والبلدان الشرق أوسطية والعربية المجاورة. * ما هي أسباب ارتفاع نسبة الإصابة بمرض حساسية القمح في المجتمع السعودي مقارنة بغيره من المجتمعات؟ * وجود الجينات (HLA-DQ2 or HLA-DQ8) بنسبة كبيرة في المجتمع السعودي ربما يفسر جزيئاً ارتفاع نسبة الإصابة بمرض حساسية القمح في المجتمع السعودي ولكن أيضاً المجتمع السعودي يستهلك كميات كبيرة من القمح تفوق الكثير من دول العالم، فحسب موقع منظمة الأغذية والزراعة العالمي (الفاو) فإن السعودية تستهلك 151 كجم من القمح لكل شخص (خلال الفترة من 2009-2014) بينما معدل استهلاك القمح في أميركا الشمالية 107 كجم من القمح لكل شخص، وفي أوروبا 137 كجم من القمح لكل شخص. * هل كل من يأكل القمح ويحمل الجينات المسببة يصاب بمرض حساسية القمح؟ * هذا السؤال مهم جداً إذ إنني ربما أثرت المخاوف لدى القارئ الكريم من خلال الأرقام الكبيرة التي أوردتها سابقاً للإصابة بالمرض لدينا في السعودية ولكن أحب أن أطمئن الجميع أن فقط 1 - 2 % من الأشخاص الحاملين للجينات المسببة يصابون بمرض حساسية القمح في وقت ما خلال سنين عمرهم (إما أثناء الطفولة أو البلوغ) وأن 98 % لا يصابون بالمرض إطلاقاً. من هنا يبرز سؤال آخر مهم وهو: لماذا لا يصاب بالمرض كل من يحمل الجينات المسببة ويأكل الأطعمة المحتوية على القمح؟ الجواب لهذا السؤال غير معروف ولكن أشارت الدراسات أن هناك عوامل أخرى مطلوب وجودها (بالإضافة إلى الجينات واستهلاك القمح) لاستحثاث الجهاز المناعي والذي يؤدي إلى التحسس ضد القمح في الطعام، هذه العوامل ربما تكون بيئة أو وراثية. * يبدو من نتائج دراستك أن مرض حساسية القمح يشكل مشكلة طبية في المجتمع السعودي، فما الذي يجب فعله؟ * فعلا وجود قرابة 250 – 300 ألف حالة حساسية قمح في مجتمعاً ما يرهق كاهل النظام الصحي لما تتطلبه هذه الحالات من التشخيص المبكر ثم تقديم العلاج والمتابعة الطبية المستمرة، ثم إن عدم التشخيص المبكر لتلك الحالات يفاقم المرض ويؤدي إلى مشاكل أخرى مصاحبة مما يكون له أثر سلبي على الحالة الصحية للشخص المصاب وكذلك زيادة التكاليف المالية المطلوبة لرعاية المريض. أيضاً العلاج المتمثل في الحمية بالامتناع عن الأطعمة المحتوية على القمح واستبدال تلك الأطعمة ببدائلها مكلف مالياً للأسرة. دائماً نردد "الوقاية خير من العلاج" ولكن هذا غير ممكن في حال مرض حساسية القمح لأنه ليس هناك حالياً طريقة لمنع حدوث المرض ابتداء. لذلك الجهود ينبغي أن تتجه نحو الكشف المبكر عن مرض حساسية القمح لأن التشخيص المبكر لمرض حساسية القمح وبداية الحمية الغذائية مبكراً تقي بإذن الله من تطور المرض وحصول المضاعفات. * ما هي التوصيات التي خرجتم بها من هذه الدراسة؟ * لعلي هنا أوجز وأذكر أهم التوصيات: 1 - توعية المجتمع وكذلك الأطباء، خاصة في مراكز الرعاية الأولية، بمرض حساسية القمح (أعراضه، طريقة التشخيص والعلاج) عن طريق إقامة حملات توعوية وورش عمل منظمة في جميع مناطق المملكة، هنا يبرز الدور المهم المناط بوزارة الصحة، المستشفيات الرئيسية، الجمعيات العلمية، والجمعيات الخيرية المجتمعية. 2 - وضع الخطط الإستراتيجية التي تكفل الكشف المبكر للمرض لتقديم العلاج قبل حصول المضاعفات، في الوقت الراهن من الأفضل اتباع طريقة ترتكز على فحص الأشخاص الذين لديهم قابلية عالية للإصابة بمرض حساسية القمح والأشخاص الذين يعانون من أي أعراض في الجهاز الهضمي. مستقبلاً إذا توفرت البنية التحتية اللازمة وتهيأت الظروف المناسبة ورصدت الميزانية الكافية فربما يكون الوقت مناسباً لعمل فحص إلزامي لجميع الأطفال وليكن قبل دخول المدرسة عند 6 سنوات من العمر وجعل ذلك من شروط دخول المدرسة (كما هو المعمول بشهادة التطعيم كشرط لدخول المدرسة). 3 - من أجل ضمان نجاح خطط الكشف المبكر ينبغي أن يكون التحليل اللازم للكشف (Anti-TTG) في متناول الأطباء في المراكز الصحية والمستشفيات الطرفية في جميع مناطق المملكة. حالياً هذا التحليل موجود في المستشفيات الرئيسية والمدن الطبية في 3-4 مناطق فقط في المملكة. 4 - تذليل الصعاب والعقبات التي تعيق التزام المرضى بالحمية الغذائية (الطعام الخالي من الجلوتين) وإيجاد الحلول الجذرية لها، إذ ليس من الحكمة التشخيص المبكر لأعداد كبيرة من المرضى دون أن توفر لهم الغذاء البديل بيسر وسهولة. من خلال التحدث إلى مرضى حساسية القمح في العيادة، أستطيع تلخيص تلك العقبات فيما يلي: * الغلاء الباهظ للغذاء الخالي من الجلوتين. * توفر الغذاء الخالي من الجلوتين في أماكن قليلة جداً في المدن الرئيسية. * عدم التسمية الدقيقة للغذاء الخالي من الجلوتين على الكثير من المنتجات الغذائية في المحلات التجارية مما يسبب اللبس لدى المرضى في اختيار الغذاء المناسب وربما يخل بالحمية الغذائية لديهم من حيث لا يشعرون. مما سبق ذكره من العقبات يبرز الدور المهم والإيجابي الذي يمكن أن تلعبه العديد من الجهات الحكومية ذات العلاقة لتذليل تلك العقبات كوزارة التجارة، ووزارة الشؤون الاجتماعية، والمؤسسة العامة لصوامع الغلال. ثمة تقدم جيد في هذا المجال ولكن ننتظر المزيد. 5 - عمل دراسات مشابه في المناطق الأخرى من المملكة لمعرفة المناطق ذات المعدلات المرتفعة من مرض حساسية القمح من أجل توجيه الموارد والحملات التوعوية لتلك المناطق. في نهاية حديثي أود أن أتوجه بالشكر والعرفان لمدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية لدعم هذه الدراسة، وكذلك أشكر وزارة التعليم وإدارة التعليم بمنطقة الرياض لتسهيل عملنا للوصول إلى المدارس وتنفيذ الدراسة، وكذلك لولاة أمر الطلاب والطالبات المشتركين في الدراسة، ولزملائي أفراد فريق الدراسة. للتواصل مع مشرف الصفحة:عبدالرحمن محمد المنصور[email protected]