كل مساعي البشر لطلب السعادة ودفع الشقاء.. وقد يظهر من العنوان أن المراد هو (القناعة) لكن هذا غير صحيح.. فالقناعة حالة تزول ويعود الإنسان لطلب الزود كما قال شاعرنا الشعبي عبدالله القريفة: النفس ما يلحق ابن آدم هواها كل يموت وخاطره يطلب الزود! ولنا تحفظ على كلمة (كل) الشاملة.. كل من لاقيت يشكو دهره ليت شعري هذه الدنيا لمن؟! النفس ما يلحق ابن آدم هواها كل يموت وخاطره يطلب الزود وبمناسبة الحديث عن القناعة فهي نوعان: الأول قناعة الخامل الخامد الكسول الذي قضي أرضه وعششت عليه العنكبوت وهذا يحس في أعماقه بالفشل والبؤس ويصيب أسرته بالإحباط واليأس منه.. والثاني: قناعة العامل الجاد.. الذي يبذل جهده كاملاً ثم يقنع نفسه بالنتائج صابت أم خابت ويقول في نفسه: (لا يلام المرء بعد اجتهاده..) ولكن حتى هذا يعود لحالة من القلق والطلب وقد يحس أنه منحوس لا ينجح له مطلب رغم أنه مجد.. فإن لم يصب بعقدة الاضطهاد واصل الكفاح وهذا جيد. النوع الأول من القناعة مرضي، والثاني صحي، ولكن حتى الثاني ليس هو المراد بالعنوان ولا هو أسهل وأجمل وصفة للسعادة على الإطلاق، لأن السعادة -على بساطتها- لها شروطها، وتهتم بالكيف قبل الكم، بمعنى أن الذي يكافح ويستفرغ جهده في نيل مراده وتحقيق مآربه ثم يقتنع بالنتائج بعد أن قام بكل ما يقدر عليه، لابد أن نعرف ما هي مآربه التي كافح لتحقيقها؟ وما هو مراده الذي ركز جهده عليه؟ فهناك من يكافح ويجد في تحقيق الملذات الحلال وربما الحرام فلا يمكن اعتبار القناعة هنا وسيلة للسعادة، ثم ما هي نتيجة تلك القناعة وما هو تتويجها إذا كانت مآرب صاحبها مشروعة، فالسعادة أكبر من القناعة الصحية وما الأخيرة -على فرض أن صاحبها حسن المقصد- إلا مجرد خطة على ورق لا تحقق مبنى السعادة إلا بعد التنفيذ الشامل السليم والذي القناعة الصحية جزء منه ولا يمكن الحكم على هذا الجزء إلا بعد تصور الكل، أما القناعة: * وبهذا المعنى الصحي الذي يتوج بالعمل - فهي مجرد وقفة يعلل بها الإنسان نفسه ثم يستأنف الخوض في الغمار حتى يطمر عمره في غبار الركض والتطلع من جديد حتى ينتهي العمر فجأةً دون أن يجد صاحبه طعم السعادة الحقيقية.. باختصار نقول إن أسهل وأجمل وصفة للسعادة على الإطلاق، هي شكر الله سبحانه وتعالى، الشكر الصادق الصادر من أعماق القلب، الشكر المستحضر لعظمة الله الخالق الرازق المقدر بكل امتنان لما أنعم الله به عليه من خيرات وما حجب عنه من شرور لا حدود لها.. إن شكر الله -تبارك وتعالى- عبادة وسعادة.. بل لا سعادة بدون شكر المولى عز وجل، لأن الذي لا يشكر الله لا يشعر بمعنى هذا الوجود ولا يستحضر عظمة الخالق الذي خصه بتلك النعم وحماه من كثير من الشر والضرر والمشاكل التي لا نهاية لها.. ومن أهم الأسباب الأساسية التي تجعل شكر الله هو أسهل وأجمل وصفة للسعادة على الإطلاق هو أن الشكر ذروة الإيمان بالله سبحانه وتعالى، فالذي يشكر الله من أعماقه هو مؤمن كل الإيمان بالله العلي العظيم وبأنه الإله الواحد الخالق الرازق والذي بيده ملكوت كل شيء، فالشكر هنا تتويج للإيمان العميق بالله العلي العظيم تفوح روائحه الزكية من قلب المؤمن كما تفوح العطور من أزكى الورود والزهور وتلك العطور جزء لا يتجزأ من كيان تلك الورود والزهور، فالشكر الصادق هنا جزء لا يتجزأ من الإيمان العميق بالله الواحد الأحد، الخالق الرازق، وبهذا يتحرر الشاكر من كل عبودية لغير الله سبحانه وتعالى، ويشعر بعظيم الامتنان يغمره بالسعاده والرضا بأن كل خير أصابه وكل شر تخطاه كان بأمر الله وإرادته خصه -تبارك وتعالى- به، هنا يكون الشكر شاملاً للتصور السليم للحياة والكون وهو التصور الصحيح النابع من عميق الإيمان بالله وحده لا شريك له ولا رازق غيره ولا دافع للشر سواه ولا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، وبهذا تصبح السعادة شاملة تملأ الخلايا والحنايا وتنسق مع حقائق الوجود، وتنبع من العبادة الصادقة لله وحده، فالشكر من قمم العبادة، وفيه ذلك الإحساس العظيم الذي لا يشعر به إلا صادق الشاكرين وهو أن الله جل جلاله هو وحده الذي أنعم على عبده بكل خير ناله ومنع عنه كل شر أحاط به.. والشاكر لله في السراء والضراء يحب الله تبارك وتعالى، لأنه على يقين تام بأن كل خير يصيبه فهو من الله وحده، وكل شر يمنع عنه فهو من الله وحده، فيحس بالحب العميق للخالق العظيم الكريم فتستقر السعادة في أعماقه متوجة بحب الله تبارك وتعالى والرضا التام، مع الإقدام على العمل للدنيا والآخرة بإخلاص وإتقان امتناناً لهذا الخالق العظيم المنعم الكريم الذي لا تدرك عظمته العقول، وبهذا تصبح كل الأعمال. * وقد نبعت من أعمق الإيمان - وسيلة وغاية في تحقيق سعادة عميقة راضية مرضية متساوية مع الفطرة نابعة من الإحسان وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك والعبادة تشمل عمل الدنيا الحلال المتقن وبهذا تصبح حياة الشاكر في غاية السعادة.. بل إنه لا يوجد سعادة بدون شكر الله تبارك وتعالى.. فالشكر هو بحد ذاته نعمة وسعادة كبرى، وهو نعمة مباركة تزيد من نعيم الإنسان كلما شكر وهذا ما ورد في آيات محكمة في القرآن الكريم. يقول محمود الوراق: إذا كان شكري نعمة الله نعمة علي، له في مثلها يجب الشكر فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله وإن طالت الأيام واتصل العمر؟ إذا مس بالسراء عم سرورها وإن مس بالضراء أعقبها الأجر وما منها إلا له فيه نعمة تضيق بها الأوهام والبر والبحر ويقول ابن لعبون: كل شي غير ربك والعمل لو تزخرف لك مرده للزوال ما يدوم العز، عز الله وجل في عدال مابدا فيه الميال إن المؤمن لا يشكر الله لكي يسعد، ولكنه يسعد لأنه يشكر الله، وهذا أهم ما في الأمر..