منذ نشر الرواية في عام 2008م والقراءات حولها تتوالى بشكل متشابه جدا، إذ يُذكر التناص كعامل هو الأبرز في الرواية، التناص بينها وبين ديوان "دكان التبغ" للبرتغالي فيرناندو بيسوا فيما يتعلق بشخصيات العملين وضياع الهوية. التناص intertextuality هو من أبرز تقنيات أدب ما بعد الحداثة حيث يضيف طبقة أخرى من المعاني للعمل الروائي ويعطي بُعداً إضافياً لقراءة النص كانعكاس لنص آخر، تماماً كما نقرأ -على سبيل المثال- "كافكا على الشاطئ" لهاروكي موراكامي وفِي أذهاننا "أسطورة أوديب" لسوفكيلس، أو أن نقرأ "الجحيم" لدان براون وملحمة "الكوميديا الإلهية" لدانتي أليغري حاضرة كمحرك رئيس للرواية، وغيرها من الأمثلة العديدة للتناص في النصوص الأدبية. ولذلك لن أتعرض لتقديم قراءة مشابهة لهذه القراءات السابقة للرواية وإنما سأشير لبعض نتائج توظيف هذه التقنية. الحق يقال بأن علي بدر تمكن من معارضة نص فيرناندو بيسوا الشعري بشكل متماسك جدا ومتناسق هيكلياً، مما جعل قراءة روايته سلساً من حيث تسلسل الأحداث وانتقال شخصية كمال مدحت إلى شخصياته الأخرى. ولكن هذا الإغراق في المعارضة الأدبية جاء على حساب عناصر أخرى كان من شأنها أن تكون حاضرة كدواعم ترفع من قيمة الرواية أدبياً وليس فنياً، وهنا أذكر بعض الأخطاء التي أثرت على الرواية. الخطأ الأول هو الإخبار على حساب العرض. من المعروف أن الرواية تمتاز بأسلوب السرد أو الحكاية، وهو ما يُطلق عليه ب storytelling، وبالرغم مما يشير إليه المصطلح الانجليزي من إخبار "telling"، إلا أنهم تجاوزوا هذا الخطأ الشائع في السرد، إذ أصبح نادراً أن تقرأ رواية انجليزية أو أوروبية وتجد فيها الروائي يخبر بالأحداث، بل يكون السرد كاملاً عرضاً للمَشاهد دون الإخبار المباشر بما يحدث فعلياً. أما ما نجده في رواية حارس التبغ هو إخبار مباشر على مدى الرواية دون ترك مساحة للتفكير أو التحليل، مما يُضعف النص الروائي أولاً، ويعرقل الغرض الرئيس من التناص في المقام الأول ثانياً، وهو توليد معانٍ متجددة كانعكاس لنص بيسوا، فصار هذا الإخبار المباشر للأحداث لا يولد سوى معنى واحد وهو ما قصده علي بدر، ولذلك جاءت هذه القراءات متطابقة إلى حد كبير. أما الخطأ الثاني فما هو إلا نتاج للأول، وهو إقصاء القارئ كمنتج لنص إبداعي آخر، وهذا يتكرر بشكل كبير في الروايات العربية "الجيدة" وذات الرواج المنتشر منها روايات مثل "التائهون" لأمين معلوف و"خرائط التيه" لبثينة العيسى و"فئران أمي حصة" لسعود السنعوسي وغيرها الكثير التي تجعل من القارئ مجرد وعاء يُفرغ فيه الروائي من أحداث ومحتويات أخرى في الرواية دون أن يتمكن القارئ من المشاركة في كتابة هذا النص الإبداعي، وهذا يكرس لانتشار القارئ الكسول الذي لا يستطيع أن يتعاطى مع نص إبداعي حقيقي. بل أخذ علي بدر بهذه المعضلة خطوة إضافية حيث جعل من هذه التقنية تناصاً مفروضاً على القارئ لا تناص يستنبطه القارئ بواسطة أدواته وخلفياته الثقافية الأخرى. أما الخطأ الثالث والأخير هو أن هذا الإغراق في التناص أدى إلى الاكتفاء فقط بعرض الأحداث التاريخية المعروفة التي مرّ بها العراق بدءاً بالحرب العراقية الإيرانية وحرب الخليج التي تلتها وأخيراً الاجتياح الأميركي لبغداد دون إبراز هوية العراق الضائعة وهو ما كان يتوجب على علي بدر أن يتناوله بشكل مكثف كي يخدم مشروعه الروائي حول العراق الجريح. أي أن على الرواية أن تتناول معضلة شخصية متفردة تتيح للروائي التكثيف من خلالها ويتجنب ذكر الأحداث العريضة والمعروفة والمؤرخة، ولعل وجود فكرة البلاك رايتر التي تبنتها إحدى شخصيات العمل كان بإمكانها أن تتطور لتكون حالة فردية معقدة ينطلق منها علي بدر لدراسة سيكولوجية الفرد العراقي بشكل أعمق عِوَض توظيفها في ذكر تفاصيل وكواليس مخفية لحياة الجيش الأميركي، والتي لا يهتم لها القارئ العربي بشكل كبير. ختاماً، كثير من إشكاليات "حارس التبغ" هي إشكاليات متكررة في الرواية العربية، إذ لا يزال الروائي العربي مهووساً بفنيات وتقنيات الرواية على حساب موضوعها وعمق ودواخل شخصياتها النفسية، بل تتطور المشكلة أحياناً إلى غياب جماليات عرض المشهد وتكثيفه رمزياً أو سيميائياً، مما يجعل العمل الروائي في النهاية مجرد حكاية شعبوية قد يحكمها الشد والغموض والمتعة لا أكثر. علي بدر غلاف الرواية