كان بإمكان الدوحة أن تكون سنغافورة أو سول أخرى، وبميزات إضافية هي الوفرة المالية ومحدودية عدد السكان وتركيبتهم المتجانسة. المؤسف أن الدوحة اختارت أن تكون بيونغ يانغ أخرى في المنطقة لكن دون سكان ودون سلاح نووي. هل كان بإمكان دولة قطر أن تكون نموذجاً إيجابياً في المنطقة ومحرجاً لدولها؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال الافتراضي لا بد وأن أسرد لكم انطباعاتي عن زياراتي للدوحة خلال السنوات الماضية بدءاً من العام 1983ه ثم في سنوات لاحقة لأسباب متعددة. كانت المناسبة القمة الرابعة لقادة دول مجلس التعاون، ومطار الدوحة الذي استقبلنا كان أكثر من متواضع، وفي العاصمة فندقان رئيسان هما فندق الخليج الذي استضاف الوفود الصحفية والإعلامية (مازال قائماً بمسمى آخر)، وفندق شيراتون الأكثر حداثة والذي استضاف القادة والوفود الرسمية واجتماعات القمة، أما الطريق الرابط بين الفندقين على امتداد الكورنيش كان من الواضح أنه رصف على عجل قبل القمة من اختلال بلاطات الرصيف في مواضع عدة، أما المدينة ذاتها فقد كانت مثل كثير من مدن الخليج الصغيرة ترقد وادعة على ضفاف الخليج دون كثير من الحراك، حتى أن أحد الصحافيين الأجانب قال بدعابة: إذا سئلتم أين تقع الدوحة فيمكنكم أن تقولوا بأنها بقرب الشيراتون. كان نشيد "خليجنا واحد" يصدح في كل مكان، والفنانون القطريون تسابقوا لإنتاج أعمال فنية تخلد المناسبة وتذيعها شاشة تلفزيون قطر حين كان الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني (الأمير حينها) يستقبل أشقاءه الزعماء في بث مباشر نقلته كل الشاشات الخليجية في عصر ما قبل الفضائيات، يرافقه ابنه البكر وولي عهده الشيخ حمد بن خليفة (الأمير السابق) الذي لم يكن في مظهره الباسم وقامته المديدة ما يوحي بأنه سيقوم بعد سنوات قليلة بما يربك المشهد بالكامل. الدوحة حينها، كانت كما توقعناها، مدينة محافظة نساؤها يتجولن في الأسواق التقليدية بعباءاتهن وبطولاتهن (البطولة هي برقع مزخرف يغطي معظم الوجه)، سيدة واحدة كانت من خارج المشهد تأتي إلى الفندق بسيارتها التي تقودها بنفسها وبلباس عصري وتدير المركز الإعلامي بكفاءة متميزة، لا يحضرني اسمها الآن وإن كنت أعتقد أنها من عائلة الكواري العريقة، كما كان من عائلة الكواري شخصية متميزة ذو كفاءة عالية هو وزير الإعلام حينها عيسى الكواري والذي أحسبه من أفضل من تولى حقيبة الإعلام في المنطقة. الأحداث التي تلت معروفة ومتداولة في هذه الأيام، لكن الدوحة بقيت على وداعتها حتى جاء الانقلاب الأبيض الذي قام به الابن على والده عام 1995 وكان مفاجئاً حتى للمبايعين المفترضين الذين بث تلفزيون قطر صورهم صبيحة اليوم التالي لسفر الأمير الوالد خارج البلاد، كان الشيوخ والأعيان والمواطنون قد لبوا دعوة الديوان الأميري للسلام على نائب الأمير، وحينما عادوا لبيوتهم عرفوا من التلفزيون بأنهم كانوا يؤدون دور الكومبارس في هذا الانقلاب التلفزيوني المحكم الإعداد والسيناريو والإخراج. كثيرون -وربما كنت أنا منهم- تجاوزوا مشاعر رفض حالة العقوق الواضحة من الابن تجاه والده الشيخ، وتمنوا أن يكون هذا في مصلحة تحديث ونماء دولة قطر، فالأمير الشاب لا بد عازم على بناء دولة مؤسسات حديثة. وتتالت المفاجآت: الانفتاح الإعلامي وبدء بث قناة "الجزيرة" أول قناة إخبارية عربية عابرة للقارات وتعمل بناء على مواصفات مهنية دولية، إلغاء وزارة الإعلام، التصويت على الدستور، الانفتاح الاجتماعي على العالم، واستضافة عدد من أبرز الجامعات والمؤسسات الأكاديمية العالمية لفتح فروع لها في الدوحة، حركة عمران نشطة غيرت معالم أفق مدينة الدوحة، حتى تقزم المبنى الأيقوني الهرمي لفندق الشيراتون وسط غابة من ناطحات السحاب، الطرق الحديثة والأسواق الفاخرة، المجمعات الرياضية العملاقة، واستضافة دورة الألعاب الآسيوية ببراعة، والمنتخب القطري أصبح ينافس على الصدارة في دورة الخليج ولا يهم ما كان يقال عن تجنيس اللاعبين والرياضيين. زرت الدوحةمرات عدة مشاركاً في اجتماعات وندوات ومؤتمرات في إطار الجمعية الدولية للعلاقات العامة ثم جمعية الثقافة والفنون، التقيت بمجموعة مبهرة ومفرحة من الشابات والشباب في جامعة قطر، تجولت في متحف الفن الإسلامي، وحاضرت في مركز المعارض الدولي الفاخر، وبالطبع كان لا بد من فنجان شاي في سوق واقف التراثي. كل هذا الحراك كان يقول إننا أمام تجربة دبي أخرى، ولكن بنكهة وإيقاع مختلفين، السرعة والحضور السياسي المكثف، فبينما ابتعدت دبي عن أشواك السياسة بصفتها عضوا في دولة اتحادية، فإن الدوحة كانت تحضر بقوة في كل ميادين العلاقات الدولية والإقليمية، وما تحقق في دبي على مدى ثلاثة عقود، حرصت الدوحة على تحقيقه في عقد واحد أو أقل إن أمكن. غاري واسيرمان أستاذ العلاقات الدولية في جامعة جورج تاون (يهودي) والذي درس في فرع الجامعة بالدوحة، نشر مقالاً في واشنطن بوست (18 أغسطس 2017) بعنوان "الحقيقة عن قطر"، والمقال عبارة عن عريضة دفاع ساذجة عن سياسات الدوحة والتي دعت إلى مقاطعتها عدد من الدول العربية، فالكاتب يقول إن الدوحة هي عاصمة عالمية متسامحة مع الجميع، ويقول إنها عاصمة ليبرالية تتبنى القيم الغربية بعكس جيرانها الأصوليين، وهي عاصمة كريمة في مساعدة المنكوبين؛ حيث قدمت 100 مليون دولار لضحايا إعصار كاترينا الأميركيين، ويقول أيضاً إن الدوحة صديقة للجميع فهي تؤوي الإخوان المسلمين وعناصر حركة حماس في الوقت الذي تستقبل فيه شيمون بيريز وتفتح مكتباً إسرائيلياً للتمثيل التجاري (يشير الكاتب إلى أن هذا المكتب أغلق عام 2009 بضغط من الجيران الأصوليين بالطبع)، كما تشجع فرع جامعة جورج تاون على تنظيم زيارة طلابية إلى إسرائيل. ويخلص الكاتب إلى أن حكام قطر -مرة أخرى بعكس جيرانهم- ينوون دفع مجتمعهم إلى العولمة والتغريب "إذا سمح لهم بذلك". وبالطبع فإن الكاتب الذي كان يتمتع بالحرية الأكاديمية في "المدينة التعليمية" التي أنشأتها حكومة قطر بعدة بلايين من الدولارات وتمولها بالكامل، لا يعرف الكثير عن الأوضاع المحلية في قطر، ذلك أن معظم طلابه ليسوا من القطريين كما يقول هو بنفسه، فربما لا يعرف عن سجل حقوق الإنسان القطري الذي ألغى الجنسية وحقوق المواطنة عن مئات الأسر من قبيلة واحدة بين ليلة وضحاها، ولا يعرف أن حرية الرأي والدعوة للديمقراطية، التي تتغنى بها حكومة الدوحة وقناة الجزيرة وأشعلت باسمها حرائق الربيع العربي في كل مكان، أنها لم تنقذ شاعراً قطرياً من حكم بالسجن لمدة 15 عاماً؛ لأنه كتب قصيدة تمجد ثورة الياسمين قال فيها: آه عقبال البلاد اللي جهل حاكمها يحسب ان العزّ بالقوات الأمريكية وآه عقبال البلاد اللي تنام مواطن معك جنسيه وتصبح ما معك جنسيه الكاتب اليهودي لا يعرف، أو أنه لا يريد أن يعرف -كما نعرف- حجم التناقض بين مجاورة مكتب حركة طالبان في الدوحة لقاعدة العديد التي تنطلق منها الغارات على مواقعهم، وبالتأكيد لا يهمه أن يعرف كما نعرف ويعرف قادة الإخوان المسلمين وحركة حماس أن القاعدة ذاتها تخزن ذخائر القنابل الفوسفورية التي تمطر على سماء غزة. سألتقط عبارته الأخيرة وأقول إن قناعتي هي أنه لو صدقت نوايا حكام الدوحة على التقدم والعولمة والتنمية الحقيقية لمقدرات شعب قطر الذي يستحق الكثير، لتمكنوا من صنع الكثير. فلو تخلوا عن أوهامهم بتوسيع حدود إمارتهم كمكافأة لدورهم في صناعة الفوضى الخلاقة ومشروع الشرق الأوسط الجديد، وصدقوا وعودهم لمواطنيهم بتأسيس برلمان منتخب.. لربما حينها رأينا في الدوحة نموذجاً نتطلع إليه ونغار منه حقيقة. كان بإمكان الدوحة أن تكون سنغافورة أو سول أخرى، وبميزات إضافية هي الوفرة المالية ومحدودية عدد السكان وتركيبتهم المتجانسة. المؤسف أن الدوحة اختارت أن تكون بيونغ يانغ أخرى في المنطقة لكن دون سكان ودون سلاح نووي.