وجهه لا يزال في ذاكرتي حين ألقى عام 1985م قصيدةً عصماء أمام الملك فهد -رحمه الله- بمناسبة فوزه بجائزة الدولة التقديرية وهو في آخر عمره، كان الحضور يُصغون بإعجاب لهذا الشاعر المُسن الكبير الذي رسمت السنون على وجهه آثارها، وهو رغم ذلك باسم الثغر مبدع في الشعر.. ذلكم هو شاعرنا السعودي الكبير (طاهر زمخشري رحمه الله 1906-1987م) ولم يكن شاعراً مبدعاً فقط، بل كان من جيل الرواد في الفكر والأدب والإعلام، ساهم في تأسيس الإذاعة السعودية (1369 ه) وعمل بها مذيعاً ومراقباً ومُعدّاً للبرامج، واشتهر ببرنامجه (بابا طاهر)؛ وهو أول برنامج في المملكة يُوَجّه للأطفال وبأسلوب راقٍ ومُبهج ومفيد، وكان الشعر يسيل منه بعذوبة كما يسيل الفرات ودجلة والنيل، أحب مصر ومكث فيها طويلاً، وعشق تونس وعاش فيها دهراً، تبنى العديد من المواهب في الشعر والأدب والإعلام والفن، كان معطاءً نبيلاً رقيقاً .. سمعت في إذاعة جدة لقاءً قديماً معه -رحمه الله-، في برنامج (ذكريات زمان) ومما قال: إنه كان في القاهرة فشاهد الكعبة في التلفاز وفاضت عيناه دموعاً، شوقاً وخشوعاً، وفاض وجدانه بهذه الأبيات الجميلة ارتجالاً: (أهيم بروحي على الرابيه ..وعند المطاف وفي المروتينْ وأهفو إلى ذِكَرٍ غاليه ..لدى البيت والخيف والأخشبين فيهدر دمعي بآماقيه.. ويجري لظاهُ على الوجنتين ويصرخ شوقي بأعماقيه.. فأُرسل من مقلتي دمعتين أهيم وقلبي دقاته.. يطير اشتياقاً إلى المسجدين وصدري يضج بآهاته.. فيسري صداه على الضفتين على النيل يقضي سويعاته.. يناغي الوجوم بسمع وعين وخضر الروابي لأناته ..تردد من شجوه زفرتين أهيم وفي خاطري التائه ..رُؤْى بلدٍ مشرق الجانبين يطوف خيالي بأنحائه.. ليقطع فيه ولو خطوتين أُمرِّغ خدي ببطحائه.. وألمس منه الثرى باليدين وأُلقي الرّحال بأفيائه ..وأطبع في أرضه قبلتين أهيم وللطير في غصنه ..نُواح يزغرد في المسمعين فيشدو الفؤاد على لحنه.. ورجع الصدى يملأ الخافقين فتجري البوادر من مزنه.. وتبقي على طرفه عبرتين تُعيد النشيد إلى أذنه.. حنيناً وشوقاً إلى المروتين)