رواية ستونر للروائي الأميركي جون ويليامز والصادرة عن دار أثر، ترجمة "إيمان حرزالله"، من الروايات التي توقفتُ بعد الانتهاء منها في ضيقٍ وحرج: ماذا أكتب؟ إنها كأدب السجون الذي يخنق في النهاية، غير أنه ما من سجن ولا أحداث دموية تذكر في رواية ستونر. إنما هي هذا البدء ثم الانتهاء من قصة حياة الشخصية التي قد تبدو عادية لكنها تجعل القارئ عند الوصول لكلمة (تمت)، يود لو يمسك الكاتب من تلابيبه ويقول كيف هذا؟ لا بد أنه خطأ يتحمله القارئ دائماً وعليه ذلك في أن يختار سقف توقعاته كيفما اتفق. ليس بالضرورة أن يرفعه، قد يميله أو يدنيه. الرواية من تلك الروايات التي يتنامى فيها شخوصها بنفس البطء الذي تستدعيه سنين عيشهم فيها، لدرجة أنك تنتهي كبيراً. لست فقط أعني أنك لا تشعر بتوالي السنين، أي لا تشعر بفارق الزمان وهي تمر من مشهد لآخر كما تلحظه في بعض الروايات ومشاهد الأفلام، بل أعني أيضاً أنك تشعر بثقل تلك السنين التي عاشها ستونر كأنك كبرت معه تقريباً. منهك وحائر وبمشاعر مرتعشة كهلة وحانقة. ستونر، وُلد في مزرعة في ولاية ميزوري، في أواخر القرن العشرين. نشأ وحيد والديه، ليس مدللاً بل مثقلاً بأعباء العمل في المزرعة ومساعدة والديه في الفلاحة والحصاد. يوفّق بين دراسته وعمله الشاق حتى تحين ساعة رحيله من أرض طفولته ويلتحق بجامعة ميزوري في مدينة كولومبيا التي تبعد عن قريته عشرات الأميال. لا يلتحق بالجامعة لأنه يرى هو ووالديه أن ساعة حريّته واختيار مصيره قد حانت. بل إنما هي دفعة من والده العاجز عن حلّ أزمة جفاف الأرض وجدبها بأن يلتحق بكلية الزراعة ويلقى مفاتيح الخصوبة لها. وكان ذاك. التحق بكلية الزراعة بدايةً، إلى أن شاءت الأقدار بانضمامه إلى مادة إجبارية عن الأدب. حين سمع بمقطع من مسرحية شكسبير، انتابته حالة من الذهول والخدر وكأنه خارج الزمن. لم يلبث بعدها أن غيّر مسار دراسته إلى الأدب. يتخرج ستونر من جامعة ميزوري ثم يصبح معيداً فيها. وهكذا يبقى فيها يدرّس بترقيات شحيحة حتى واتته المنية. بين هذا البدء وذاك الانتهاء، تتشعب حياته بين حبٍ أول يتوجه الزواج ثم يفشل عند أول قبلة، وبين ابنة تنير حياته وتشغف قلبه حباً تكبر بخيبة أخرى، وبين علاقة غرامية توقد روحه وإدراكه لذاته إنما تجبره عوامل ضاغطة من المجتمع لينهيها كما ابتداها. كذلك بيئة عمله المضطهدة، تلك التي لا تخلو منها بيئة عمل أكاديمية كانت أو لا تحول دون التنفس والحركة والتفكير. ما يجعل هذه الرواية متماسكة ومدهشة هو تلك الأحاديث بين الذات-ذات ستونر وبينها في كل مرحلة من حياته وقرار. هذا الرضا الذي يبديه ستونر في أغلب مشاهد حياته وأحداثها والتي توقعتُ بين الفينة والأخرى أن يثور ويعصي ويعترض هذا الرضا هو ما جعل الانتهاء من الرواية مرهقاً وموجعاً ثم رائعاً حقاً. هو يبدو سعيداً بقراراته، ولا أظنه كان ليعيش حياته بغير هذا لو مُنحت له الحياة مجدداً. هو هكذا وهذا ما جعل نهايته مرضية له وحده. فمن نحن لنقرر كيف يعيش هو!؟ "تعلم وليام ستونر في عامه الثالث والأربعين ما تعلّمه الأخرون الأصغر منه: إن الحب الأول ليس الحب الأخير، وأن الحب ليس النهاية، بل عملية يحاول من خلالها المرء معرفة الآخر. في شبابه ظن ستونر أن الحب حالة وجودية صرفة قد يدركها المرء إن كان محظوظاً. وفي سنين نضجه قرر أن الحب هو نعيم دين خادع، يجب أن يحدق فيه المرء بكُفر مرِح، وعصيان مألوف وطيب، وحنين مرتبك. والآن بدأ يدرك، وهو في منتصف العمر، أن الحب لا هو بحالة إجلال ولا هو بحالة وهم، بل تحرك إنساني نحو الصيرورة، ظرف يتم اختلاقه وتعديله يوماً بعد يوم، ودقيقة تلو الأخرى، بالإرادة والعقل والقلب". أخيراً، أتفق مع ما قاله الكاتب الأميركي ستيف ألوموند عن أن رواية ستونر تركز على "المقدرة في مواجهة حقيقة من نحن في لحظاتنا الخاصة".