في كتاب Excellent Sheep يذكر أستاذ اللغة وليام ديريجويس أن مجد طلاب وخريجي الجامعات المميزة في أمريكا اليوم هو الحديث عن الكتب وليس قراءة الكتب. القراءة سلوك قديم مرتبط بالقرن العشرين، زمن الواتساب اليوم يفترض أن خريج هارفارد أو ييل أو كورنيل سيكتفي بمعرفة عناوين الكتب الجديدة، اسم الكاتب، فكرة الكتاب، قراءة مقال نقدي عنه.. وهذا ما حدث لي حين تحدثت عن كتاب "الخرفان الممتازة" دون قراءته كاملاً. وهذا ما حدث مع الكثير حين تجاهلوا قراءة الكتاب الجديد "رأس المال في القرن 21" للفرنسي توماس بيكيتي، الكتاب الضخم (800 صفحة) كان نتيجة بحث استمر عقدين لدراسة الثروة واللامساواة خلال الثلاثة قرون الماضية، مشروع طموح ولكنه متأخر، الكتاب أصبح الأكثر مبيعاً لكنه الأقل قراءة. مرحباً بك في زمن المعرفة الكبسولية أو القمامية. في الأكل هناك ما يُسمى الأكل القمامي، الأكلات السريعة والدونات وشرائح البطاطس المقلية تُعتبر أكلات غيرة مفيدة صحياً. في المعرفة ايضاً هناك فكر قمامي، المعرفة الكبسولية العشوائية المتطفلة عبر واتساب تخلق مجتمعا عنيدا، نأخذ مثالا الأزمة القطرية الحالية، يصل إلى الإنسان العادي وعن طريق الواتساب عشرات الرسائل ومقاطع الفيديو والصور حول الموضوع، تلتصق هذه الفضلات في العقل وتشعره بالتشبع، ولكن هذه الكبسولات لم تصل إلى تشكيل وعي نقدي مختلف وجيد، بل أصبحت حاجزا منيعا ضد أي حوار مفيد مع الإنسان الواتسابي، فالعلاقة طردية بين معدل كمية المعلومات التي تصل عبر الواتساب وبين تطلب هذا الشخص لمزيد دلائل لمسح قمامات عقله. القيمة الأساسية للبحث العلمي هي التراكم والتمحيص، الدورة الطبيعية لورقة علمية من 20 صفحة هي سنة كاملة، والورقة عبارة عن فكرة على الباحث أن يبحث عما تراكم قبلها من علوم ومفاهيم وأوراق، ثم يكتب، ثم يرسلها إلى مجلة علمية "محكمة" ليراجع الورقة من هو ند له وفي تخصصه وليس "واحد من العيال"، ولأن السنة فترة زمنية طويلة ولأن الصحافة فقدت دورها كوسيط للمعرفة ظهر الواتساب، وقبله ويكيبيديا، ويوتيوب.. إلخ، تم اختصار الطريقة التقليدية لتوليد المعرفة ونشرها من نصف مليون دقيقة إلى 5 دقائق. أثناء عملي في أحد مراكز الأبحاث في واشنطن كان يحضر إلينا عدد من جمهور العاصمة لحضور الندوات العامة التي يعدها المركز، لاحظت أن بعض الوجوه تتكرر مهما كان محور الندوة، الطبيعي أن يحضر -الباحث عن المعرفة- للندوات التي تدور حول مجال تخصصه واهتمامه، لكن هذه المجموعة والتي تكررت وجوهها تذهب إلى كل مكان وتراها منتشرة وبدوام كامل بين مراكز الأبحاث في العاصمة واشنطن، السر الذي يدفع هؤلاء للحضور هو الأكل المجاني، هذه المجموعة من البشر تحضر لتستمع إلى عصارة رأي خبراء في موضوع السلاح النووي في الشرق الأوسط أو تداعيات انخفاض أسعار البترول في فنزويلا بشكل لا يخلق عقلا مترابطا ومفهوما، ثم يندفعون نحو طاولة الأكل. عقول هؤلاء عبارة عن جزر من المعرفة غير المفيدة، تجلس مع أحدهم فتخرج من فمه كلمات كبيرة وتعتقد أنه متخصص في مجاله، ولكنك حين تدقق تجد شروخا في طريقة تفكيره، قد يكون هذا المثال أكثر تعقيداً، لكن كما يقول الاقتصاديون ليس هناك شيء يُدعى غداء مجانيا there is no such thing as a free lunch، فمجانية وسهولة معلومة الواتساب لا تأتي بلا تأثيرات عقلية.