المكون الثقافي الهش والبسيط للمجتمعات الصحراوية وشبه الزراعية التي كناها قبل 100 عام , جعلنا قابلين لتشرب جميع الأيدلوجيات المحيطة بنا, والتي لم تكن بدورها معنية بالظرف التاريخي الخاص لمملكة فتية تصبو إلى ترسيخ هوية وطنية متماسكة ونسج غطاء ثقافي يحميها من الشتات والتفكك, بل حطت تلك الأيدلوجيات بحمولتها الفكرية الثقيلة على المشهد الثقافي والوطني, فعصف بنا مع بداية وصول المدرسين والتكنوقراط العرب متأبطين الفكر القومي العروبي والشعارات النضالية كنموذج أمثل يتقهقر حوله الوطن, ويتقدم انتماءنا لمحيطنا العربي, بحيث أصبحت القومية العربية تابو فكرياً تتم صناعته في العواصم الثقافية ويصدر لنا, ليندرج النقاش أو السؤال حول ظرفها التاريخي إلى منزلة المحرم . وبعد الفراغ الفكري الذي أحدثته هزيمة 67, استلم المقود الفكر الأخواني الأممي على حساب الوطن أيضا, ولعل الدمار الذي أحدثه الفكر الإخواني في الهوية الوطنية المحلية يفوق كثيرا ما سبقه , نظرا لاستثماره في مكون ثقافي أصيل لسكان المملكة الذين يحملون العواطف الدينية الفطرية والبسيطة, مما مكنه التغلغل في الكثير من مفاصل المؤسسات, ولم يصحُ منه الجميع إلا على أصوات تفجيرات العليا 1995 والتي أعلنت وقتها انتقال الفكر الإخواني من طوره الفكري إلى مرحلته الميدانية العسكرية باتجاه دولة الخلافة. وإن كانت الهوية الوطنية ومفهوم (المواطنة) هي وعي جمعي بالهوية الثقافية التي تربط حاضر شعب ما بمستقبله, يتمثل المواطن من خلالها حقوقه المدنية المنطلقة من العقد الاجتماعي ومفهوم الدولة المدنية الحديثة القائمة على أطر دستورية, والتي تربطه في منظومة مشتركة تحافظ عليه من التشتت والتفكك , فغيابها أيضا أسهم في صناعة شروخ في الهوية المحلية تم التسرب من انشقاقاتها إلى الهويات الفرعية. جميع ماسبق أسهم في حجب الهوية الوطنية, حتى بات الحديث عنها بين النخب كأنه خيانة أو ارتداد لفكر رجعي بدائي, مما ألقى بظلاله الثقيلة على نشاطنا الفكري وعلاقتنا الحضارية مع العالم حولنا , وخططنا وبرامجنا التنموية ومناهجنا التعليمية , ومؤسساتنا الأكاديمية, حتى وصلنا لمرحلة من التطرف تم فيها رفض الاحتفال باليوم الوطني أو الوقوف احتراما لنشيده (العام الماضي أثناء محاولة الانقلاب في تركيا , طبيعة جيشان وحماس البعض حولها كان يظهرها كأنها في أحد شوارعنا الخلفية ) . سنوات طوال من خلخلة وتهميش الانتماء , كان يقابلها سرعة الاستجابة لأجندات خارجية على مستوى الصراعات السياسية الدولية والحروب الخارجية, والتحالفات التي تتقاطع مع أمن واستقرار الداخل. البند الرابع في رؤية 2030 يفعل برنامج تعزيز الشخصية السعودية, كوطن لايضم الأماكن المقدسة ومهوى أفئدة المسلمين من كل فج عميق , مع حضور و ثقل اقتصادي كبير في المنطقة فقط ,بل أيضا سليل لحضارات وامتداد شعوب متمدنة قطنت جزيرة العرب . في النهاية تعزيز الهوية الوطنية ليس واجبا حكوميا فقط, بل مشروع ريادي, ومطلب جوهري لمرحلة تسعى إلى تجاوز تعثرات الماضي إلى إعادة اكتشاف العشق الفطري بين الشعب وأرضه, وممارسة تلقائية نريد أن نلمسها حقيقة واقعة في قناعاتنا وسلوكنا معا.