نعيش هذه الأيام ذكرى اليوم الوطني للمملكة، وهي ذكرى مهمة، لكنها بقدر ما تشعرنا بالتحوّل الكبير الذي شهدته بلادنا في ظل الوحدة الوطنية والامتزاج الكبير بين أبناء الوطن والنمو المتسارع الذي تعيشه كافة مناطق ومدن المملكة إلا أنها ذكرى "مؤرقة" لأنها تعيد لنا صورة الخلل "الاجتماعي" العميق الذي بات يهدد "الهوية الوطنية"، فالمشكلة الآن هي إلى أي مدى يستشعر ابناؤنا والجيل الحالي بشكل عام قيمة الوحدة الوطنية وانتمائهم لوطن واحد وإلى أي درجة هم فعلا مؤمنون بهذه الوحدة؟ أقول هذا لأني ارى يوميا حالات تباعد بين الشباب وانتمائهم المكاني والثقافي والاجتماعي. هناك من يرى أن المشكلة "دينية" وأن الهوية الدينية أصبحت مشوشة لدى الشباب؛ لذلك قل الانتماء على المستوى الوطني، وهناك من يرد على هذا الرأي بقوله إن تضخيم الهوية الدينية هو الذي أحدث هذا الارتباك وجعل كثيراً من الشباب يرى في انتمائه الوطني والعربي مخالفة دينية، فأصبح لا يعلم هل هو ينتمي إلى وطن ومحيط عربي أو إلى أمة إسلامية غير واضحة الحدود والمعالم. ويبدو لي أن مسألة الهوية وحدوث أي إرباك فيها ينذر بمخاطر جمة لا نعي حقيقة مدى تأثيرها المستقبلي لأنه قد يسلخ جيلاً كاملاً من انتمائه لوطنه ويشتت ارتباطه بالمكان والمجتمع الذي يفترض أن ينتمي له. إن تفكك الهوية يعني تفكك الانتماء وإن احتفالنا بيومنا الوطني هو ليس مجرد احتفال، بل هو دعوة لتعزيز الهوية الوطنية وتنقيتها من الشوائب ومعالجتها إن كانت مصابة بوعكة، وتحويلها إلى برنامج «إصلاح».. في الكويت عقد الأسبوع الفائت منتدى لتعزيز الهوية الخليجية حضره الأمير سلطان بن سلمان، وقدم فيه ورقة مهمة ركز فيها على أهمية البعد الحضاري لمنطقتنا وأهمية فهم الجيل الحالي لهذا البعد والدروس السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى العمرانية التي يمكن أن يتعلموها وتصبح مرجعا لهم يسترشدون بها في التعريف بوطنهم ويواجهون من خلالها الأزمات التي تحيط بهم في الواقت الراهن الذي تتكالب فيه علينا الأمم من كل صوب وحدب. فالإيمان بالقوة الداخلية والمقدرة على التماسك لمواجهة الأزمات تتجاوز الأوطان المخاطر، ويفترض أن الهوية تصنع هذه الوقاية وليس العكس، لأن البعض يتخذ من الهوية سلاحا لتفكيك الداخل وعزل نفسه عن بقية الوطن وإعطاء محيطة المكاني والاجتماعي خصوصية تفصله عن جسد الوطن الكبير، وهذا ما يمكن أن نسميه "الهوية القاتلة"، على حد قول "أمين معلوف" لأنها هوية تفكك ولا تربط وهي بذلك خطيرة جدا. إن استشعار دول الخليج بأزمة الهوية المعاصرة التي تعيشها شعوب المنطقة يؤكد أن المسألة بلغت مرحلة الخطر، فالأمر لم يعد فقد خلل في التركيبة السكانية التي تعاني منها أغلب دول الخليج العربية، بل تعدت ذلك إلى نفور شباب المنطقة من بلدانهم ونظرتهم الدونية لها، وهذا والله هو الخطر بعينه. مقاطع "اليوتيوب" المنتشرة التي تصور بعض شباب الخليج وهم يقارنون البلاد التي يسافرون لها ببلدانهم تشير إلى أن هناك "تفككاً" واضحاً للانتماء وتنامي شعور قوي بعدم الرضا وعدم الرغبة في العمل والاجتهاد من أجل الاصلاح. المشكلة هي في تراكم الشعور باليأس وأن التغيير فات آوانه وأن أي عمل في الوقت الحالي يعتبر وقتا ضائعا. التشكيك في المنجز الوطني من خلال المقارنات غير العادلة والبحث عن شماعة لتعليق الاخطاء عليها دون القيام بأي عمل هي سمات "الهوية الاجتماعية" الحالية في منطقة الخليج، وهي سمات تصنع حالة "اللاانتماء" التي تطغى على كثير من شباب المنطقة. يقول أحد المستشرقين إذا أردت أن تهدم حضارة فعليك بهدم الأسرة والتعليم والقدوة، ويبدو أن أزمة الهوية تتقاطع مع هذا القول لأن الهوية هي أول عنوان الحضارة، وأنا شخصيا منبهر بمقدرة الحضارة الاسلامية في العصر الأموي لسرعتها الفائقة التي صنعت فيها هويتها الخاصة رغم أنها كانت واقعة بين حضارتي الروم والفرس إلا أن الأمويين استطاعوا بناء هوية عربية اسلامية مختلفة ومميزة. السؤال المهم هو: كيف ولماذا استطاعوا تحقيق هذا؟ جوابي الذي يحتاج إلى مزيد من البحث والدراسة هو أن الشعور بالانتماء والايمان بالمرجعية الثقافية الدينية (القدوة) والثقة الكبيرة في النفس التي ولدتها هذه المرجعية (التربية الأسرية) هي التي مكنتهم من تحقيق ذلك الانجاز المبهر. كيف ننظر لأنفسنا وكيف ينظر الآخر لنا، من نكون وكيف نكون، كلها أسئلة جوهرية نقدية يفترض أنها تمكننا من فهم حالنا المعاصرة. كما أن هناك جانبا آخر للهوية يفترض أن يوضع في الاعتبار، وهو العمل على تحقيق ما نريد أن نكونه فعلا لا التوقف عند مجرد الامنيات، وأقصد هنا أن هناك من ينظر للهوية كصورة تجريدية خارجية دون أن يعي أن الخارج يعكس الداخل، وأن تزيين الخارج لن يجدي نفعا ولن يحقق حالة انتماء دائمة لأنها ستكون حالة واهمة ومؤقته تنقضي بانقضاء الصورة الخارجية المزيفة. لذلك فإن توصيات منتدى الكويت لتعزيز الهوية يجب أن تتحول الى برنامج عمل ويجب أن تتبعها قرارات وإصلاحات في التعليم وفي البنية الاجتماعية والثقافية بشكل عام، ولعلي هنا أعيد المبادرة التي طرحها الأمير سلطان بن سلمان لتبني وثيقة مرجعية للهوية الخليجية ترتكز على أربعة أطر هي: الإطار الديني واللغوي والإطار الحضاري والتاريخي والإطار الاجتماعي وأخيرا الإطار الاقتصادي. والحقيقة أن هذه الوثيقة هي برنامج عمل آني وبعيد المدى يضع أسساً إصلاحية واضحة على مستوى التعليم والتربية الاسرية ومنظومة القيم والثقافة الاقتصادية بشكل عام لمجتمعات الخليج العربية. يجب أن نضع في اعتبارنا دائما أن تفكك الهوية يعني تفكك الانتماء وأن احتفالنا بيومنا الوطني هو ليس مجرد احتفال، بل هو دعوة لتعزيز الهوية الوطنية وتنقيتها من الشوائب ومعالجتها إن كانت مصابة بوعكة، وتحويلها إلى برنامج "إصلاح"، وأنا أقول هذا الكلام وأتمنى أن يتحقق لأن الحديث عن الوطن والوطنية يملأ الصحف وهذا في رأيي يؤكد أن هناك مشكلة في مسألة الانتماء، فالكل يشعر بالمشكلة والحل غائب أو هو عسير، لأن "الكلام" في الهوية سهل لكن تحويل هذا الكلام إلى عمل صعب جدا.